عبد الله العروي: الثقافة ليست قضية سياسية أو اقتصادية عابرة ج2
أجري هذا الحوار مع المفكر المغربي عبد الله العروي من طرف جريدة الأحداث المغربية في عدد 21 نونبر 2013
- وقفنا بالأمس عند سؤال نصوص الدارجة التي سيدرسها التلميذ عندما يصل إلى مستوى دراسي معين، و أن الدارجة فقيرة على هذا المستوى، و لن يجد التلميذ ما يدرسه، عكس العربية الغنية بنصوصها و ما تحمله من معاني و إيحاءات.
أنا مسكون بهذه القضية و مثقل بأسئلتها لأنني حلت في المشروع الأصلي لرواية “اليتيم” أن أكتب بالدارجة بلا نقطة و لا فاصلة، و لكن شيئا فشيئا بدأت مستويات الكتابة تختلف. مستوى الدارجة خاص بالتواصل فقط، ثم مستوى العربية لما ترتفع و تتعقد تعابيرها و إيحاءاتها و إحالاتها. يمكن أن أقرأ مقطعا من هذه الرواية لتقف بالملموس على ما قلت. لا يحضرني الآن مقطع التواصل بالدارجة، و لكن المقطع المكتوب بالعربية يقول:
“و ماذا تركت لتشاهديه معي ؟ بجانبك أشاهد كل شيء من جديد، انتظرت هذه الدقيقة منذ خمس عشرة سنة. نعم طالما تمنيت أن ترى البندقية في الشتاء. ها فصل الشتاء و أنت في البندقية. ماذا فعلت في الغربة طوال هذه السنين ؟ حسبت الأيام، ثم تخيلتك، و عشت مع غيري، لقد أعانوني على الحياة. نسيتك فتذكرتك، ثم نسيتك فتذكرتك. هذه دقائق مفصولة من الماضي، و عن المستقبل، و هذه مدينة مقطوعة عن الغرب و الشرق، كنائسها كالمساجد، لنبتعد برهة عما قد وقع، و عما قد وقع. إننا هنا بسبب أشياء وقعت منذ أزمان متقادمة، لنفرض أنها حدثت البارحة، لنفرض، و لنذهب حيث يجتمع الشباب. أفضل أن أرى امرأة مسنة، شعرها أبيض، تشده سفيفة زرقاء، ينظر إليها زوجها، قميصه من الصوف الملون و كأن لم يمر على زواجهما إلا يوم. سنبحث اليوم أو غدا عن السقاية المشؤومة، سقاية الموت في البندقية. سنذهب إلى الأكاديمية لنرى العاصفة و انفجار الساعة، و في متحف كوكنهاي لوحة ماكريت، زرقة ماكريت، و القبر الصغير المكتوب على رخامه “إلى أولادي الأعزاء”، و من هم هؤلاء أصحاب الأسماء اليونانية، أولاد يتامى، بل كلاب. العطف على الحيوان سخط على الإنسان، و العطف على الإنسان سخط على القدر، و تعلو وجه ماريا موجة من اليأس”.
كيف كنت سأكتب كل هذا بالدارجة ؟! لا يمكن كتابته بالدارجة لأن فيه إيحاءات، إيحاءات البندقية و همنغواي و توماس مان. هذا تراكم مائتي سنة، و تلاقح بين هذه الحضارة و اللغة العربية المكتوبة التي استطاعت أن تستوعب هذه المعطيات في عمقها، و تعبر به بهذا الأسلوب. بالتالي، علينا أن ننتظر مائتي سنة أخرى حتى ننجح في التعبير بالدارجة تعبيرا أدبيا محملا بالإيحاءات ! هل نملك الزمان الكافي لتحقيق هذه النتيجة التي تستطيع العربية تحقيقها دون مشاكل؟ هل استوعب نور الدين عيوش و كل الدعاة إلى التعبير بالدارجة هذه الحقائق؟ هل فكروا فيها و في مضيعة الوقت التي يستدعيها بناء الدارجة ؟ ما يدعون له ليس بالبساطة التي يتصورونها، و القضية لا صلة له باستعمال بعض التعابير بالدارجة مثل “ما تقيش ولادي”، و انتهى الأمر. هذه القضية يجب أن يبتعد عنها الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالثقافة لا من قريب و لا من بعيد، و لا حق لهم في أن يتدخلوا في أمور كبرى تقتضي التسيير و التخطيط لمستقبل شعب بكامله. الثقافة ليست قضية سياسية أو اقتصادية عابرة، الثقافة أكبر بكثير.
- و ماذا عن تمغربيت و الخصوصية المغربية ؟
أما مسألة “تمغربيت” فأقول عنها إنها تعود إلى نوع من الانعزالية، و أظن أن رجل السياسة بالمغرب لا يمكنه اليوم أن يطبق هذه السياسة الانعزالية، و لكن أنا باعتباري رجل ثقافة لدي الحق في أن أميل مع هذا الاتجاه أو ذاك. لهذا أقول في قضية الدعوة إلى التدريس بالدارجة، أرفضها و أنا أعتز بمغربيتي و خصوصيتي، و هذه مسألة لا علاقة لها بقبول تلك الدعوة، و لا بشعوب الشرق، و إنما لها علاقة بثقافة و بمخزون ثقافي، يضم كتاب “ألف ليلة و ليلة” و “بخلاء” الجاحظ و “كليلة و دمنة”. في قراءاتي الكثيرة لبخلاء الجاحظ، أقف في كل قراءة علي أنني أقرأ كتابا جديدا لم يسبق لي أن قرأته. هل نتخلص من هذا الكتاب و نمحوه من ثقافتنا بدعوى أنه لا يمت بصلة إلينا، و أنه كتاب كتب في البصرة ؟! نتخلص من البخلاء و من ألف ليلة و ليلة و الأدب الأندلسي، فماذا سيتبقى لنا في المغرب؟! ستبقى لنا تمغربيت؟! أسأل هنا، ما هي الثقافة المغربية ؟ ستقول الثقافة المغربية هي اليوسي، سأرد عليك بأن اليوسي كتب محاضراته باللغة العربية، و لم يكتبها بالدارجة أو الأمازيغية، و الأمر نفسه بالنسبة للمختار السوسي. هل نطوي صفحة هذه الثقافة المغربية المكتوبة بالعربية و نبدأ من جديد كأننا شعب ليست له ثقافة مكتوبة، و يريد أن يخدم ثقافته الشفوية ؟ ! لهذا السبب رفضت منذ أو كتاب كتبته، و هو “الإيديولوجيا العربية”، ما أسميته “الثقافة الفلكلورية”. لماذا رفضت هذه الثقافة؟ حتى لا نجد أنفسنا في ذلك المستوى البدائي الذي هو في طور الانفتاح على الكتابة و المكتوب اللذين التحق بهما الإغريق منذ ثلاثين قرنا، و العرب منذ ما يقرب من عشرين قرنا، و يأتي البعض منا و يقول، الآن في القرن الواحد و العشرين، علينا أن نبدأ ن الصفر و نهتم بتمغربيت و اللغة المغربية الشفوية كأننا لا نتوفر على لغة مكتوبة و على ثقافة مكتوبة ! نتنكر لتلك اللغة و تلك الثقافة و ندعو إلى الاهتمام بالدارجة و نكتبها و نخدمها لتصير بعد مائتي عام لغة وطنية قادرة على إنتاج الثقافة المكتوبة !
- و لكن هناك تجارب عدة شعوب استطاعت أن تستقل بلغاتها الوطنية.
يا سيدي، أنا مستعد لتقديم أمثلة على هذا الصعيد. هناك مثال الهولنديين الذين مرت عليهم الآن أربعة قرون حين سعوا إلى الانفصال عن إسبانيا التي لا يجمعهم بها لا دين و لا اللغة، فكتبوا لغتهم المحلية، و صارت الهولندية كما كتبت تدل على مستوى أعمق من اللهجات الألمانية الأخرى، لأن تلك اللهجات ظلت شفوية، بينما الهولندية صارت لغة مكتوبة، لكنها بالمقابل حفظت و جمدت في هذا المستوى و لم تتجاوزه مقارنة بتلك اللهجات التي استمرت حية. الهولنديون متقدمون الآن اقتصاديا و سياسيا، و لكن من يهتم في العالم بالثقافة الهولندية ؟ ! و من يقرأ ما يكتبه الكتاب الهولنديون بلغتهم الوطنية ؟ ! هل سبق لك أن قرأت لشاعر هولندي ما كتبه من شعر بلغته الهولندية ؟ هل قرأت لروائي هولندي؟ الجواب معروف على أن الثقافة الهولندية أنتجت شعراء و قصاصين و روائيين من الطراز الرفيع، لكن لغتهم المحلية حالت دون شهرتهم على الصعيد العالمي. مبدعون كبار و لا أحد يعرفهم خارج هولندا، بل منهم من اضطر إلى الكتابة بالإنجليزية حتى ينجح في مغادرة لغته الوطنية التي تحكم عليه بالانغلاق، و هذا ما قام به المختار السوسي حين قرر الكتابة بالعربية حتى تعرف كتاباته انتشارا أوسع. المختار السوسي كان يتحدث في بيته و حياته اليومية بالسوسية، فتخيل معي لو أنه كتب “المعسول” بالسوسية فمن كان سيقرأ ذلك الكتاب الذي ما زال إلى اليوم مقروءا و يثير أسئلة قرائه من غير السوسيين. هنا أنتقل إلى المثال الثاني، يتعلق الأمر بجيمس جويس الذي عاش في محيط ايرلندي يعادي اللغة الإنجليزية و يدافع عن اللغة الوطنية اللسلتية القديمة و الخصوصية الايرلندية مقارنة بثقافة الإنجليز و لغتهم. عاش جويس في هذا المحيط الذي يحتفي باللغة المحلية على مستوى الشعر و الأغاني و المسرح، و كتابة هذه المستويات، لكن الروائي ارتأى ألا يؤدي ثمن الخطأ الذي ارتكبه أجداده الأبعدون الذين لم يطوروا لغتهم و لم يكتبوا بها، و فضل أن يعيش خارج وطنه الأم، و أن يتعامل مع اللغة الإنجليزية كأنها لغة قابلة للافتراس. تعامل معها كأنها لغة مفترَسة، يفترسها أثناء الكتابة بها، بحيث لو قرأها إنجليزي فسيقول هذه ليست لغتي الإنجليزية التي أعرفها و أتقنها. لو كتب جويس روايته المشهورة الآن بلغته الوطنية، من كان سيطلع عليها و يقف على براعة روائي من الطراز الرفيع ؟ سيقرؤه الإيرلنديون الذين لا يتجاوز عددهم أربعة ملايين نسمة، و أما الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة فلا يعرفون لغتهم الأم. أنتقل إلى الهند التي تصل لغاتها المحلية إلى مائتي لغة، كل مقاطعة تتحدث لغتها الخاصة بها، و اللغة الرسمية ليست هي السنسكريتية، اللغة الدينية القديمة، و إنما الهندوستانية التي يتحدث بها أكثر من مائتي مليون هندي، و مع ذلك لا يعرف من الهنود إلا من يكتب بالإنجليزية. أكثر من ذلك، اللغة البنغالية التي يتحدث بها أكثر من ثلاثمائة مليون من البشر، فطاغور الكاتب البنغالي الشهير، ألف كتبه بالإنجليزية، و لم يكتبها بالبنغالية التي تزخر بثقافة و آداب عريقة، لو كتبها بلغته الوطنية لظل حبيس بلاده و لن يعرف الشهرة العالمية التي حازها.
- حتى لا نبتعد عن موضوعنا، اللغة العربية الفصحى لغة رسمية رسمها الدستور، أما خانة اللغة الوطنية فما زالت شاغرة، و تنتظر الملء باعتماد اللغة المغربية التي تتحدث بها الأغلبية الساحقة من المغاربة.
تمعن في ما سأصرح به. ذهبت بعيدا في قبول أن تكون الدارجة لغة التدريس في السنوات الأولى من التدريس الابتدائي. هذا ما يطلبه نور الدين عيوش. بل ذهبت أبعد من ذلك، حين دعوت إلى كتابة الدارجة بحرف خاص بها يميزها عما سواها. لم أقف عند هذا الحد، بل ذهبت بأن اعتماد الدارجة في التعليم الابتدائي، لا يمنع من نبوغ في العلوم و التقنيات و الفنون. هناك نقطة واحدة ظلت معلقة، و هي الثقافة الأدبية. إذا اعتمدنا الدارجة لغة مكتوبة سينقطع المغاربة عن الثقافة العربية و ما أنتجته طيلة قرون من إرث ثقافي و أدبي، و ما زالت تنتجه. الأمر هنا لا يتعلق فقط بقطيعة مع الشرق العربي و شعوبه، و إنما سيتعلق بقطيعة مع الحضارة العربية و مع ما ساهم به المغاربة و أهل الأندلس في تلك الحضارة. إذا اكتفينا بتعليم الطفل الدارجة فستنقطع صلته انقطاعا كليا بتلك الحضارة و ثقافتها.
- ستحدث هذه القطيعة إذا تم إقصاء العربية الكلاسيكية من الحقل اللغوي المغربي، إما إذا لم يقع ذلك الإقصاء و استمر استعمال تلك العربية فلن تحدث تلك القطيعة و سيستمر اتصال المغربي بالثقافة العربية و التفاعل مع ما أنتجته و ما زالت تنتجه.
حاول أن تستوعب تصوري للقضية. سيكون ذلك بالتدرج كأنك تقود سيارتك و تنتقل من السرعة الأولى إلى السرعة الثانية فالثالثة و الرابعة. إذا انطلقت في تعليم الطفل بالدارجة فقط، لا يمكن أن تنتقل به بعد ثلاث سنوات، إلى أن يختار بين إحدى اللغات الأجنبية و اللغة العربية الموحدة و ليست العربية الكلاسيكية. أنا لا أسميها عربية كلاسيكية، و من هذا الذي يتكلم العربية الكلاسيكية الآن ؟! لا يوجد شخص يتحدث بها، و إنما هناك من يكتب بها. في دردشتنا الآن، لا نتحدث بالدارجة كما يتحدث بها الناس في الشارع و حتى في البيت، و إنما نتحدث بلغة بين بين، بين الدارجة و العربية، إنها اللغة الوسطى. لنأخذ الصفحة الساخرة التي تنشرها يوميا جريدة “الأحداث المغربية”، و هي بالمناسبة صفحة مكتوبة بغير العربية، و أتمنى أن تعرضوها على شخص مستواه التعليمي بسيط لم يتجاوز المستوى الثالث ابتدائي، و تطلبوا منه قراءة ما كتب فيها، أكيد سيلاقي صعوبة كبيرة في قراءة ما تسمونه دارجة. اللغة التي تكتبون بها تلك الصفحة الساخرة، لغة لا يمكن أن يقرأها إلا الذي يقرأ بالعربية الفصحى. إذن ما معنى هذا الاستنساخ؟ إذا كانت هناك صعوبات في تدريس العربية التي أسميها معربة، و كانت هذه اللغة تعاني من مشاكل، فعلينا أن نقوم بتيسير تلك الصعوبات و إصلاح المشاكل التي تعاني مها، و إصلاح تلك العربية ليس بإبدالها بالدارجة، لأن الدارجة لا تصلح لهذه المهمة التي تطلبون منها، فهي أكبر منها بكثير.
- إذن، تعترفون بكون العربية تعاني من مشاكل و تعيش أزمة حقيقة.
نعم، و لكن هذا لا يعني إصلاح مشكل بمشكل أكبر منه. لا يمكن إصلاح مشاكل العربية بالدارجة، لأن الدارجة تعاني من أزمة أكبر، بل أخطر من أزمة العربية. مع ذلك يمكن أن أجيب عما طرحته. الذين ينادون بتبني الدارجة لغة للتدريس و الكتابة، لم يطلعوا على ما كتبه ابن خلدون في مقدمته. ابن خلدون عرض نقاشا طويلا و عريضا حول الدارجة، و يقول إن الدارجة لغة قائمة بذاتها، و لكن ابن خلدون يفسر في الوقت نفسه، لماذا تأخر المغاربة في النطق بأصوات العربية مقارنة بالمشارقة، و يستحضر الكتاتيب القرآنية و قراءة القرآن جهرا، لأن الغاية من تلك القراءة ليست الحفظ و لا الفهم أو التدين، و إنما بغاية إصلاح النطق و مخارج الحروف نتيجة ما أصابها من تأثيرات الأمازيغية و أدت بالمغربي إلى كثرة الإدغام و غياب المصوتات، و أبعدته عن النطق السليم لأصوات العربية كما ينطقها السوريون و المصريون. الغاية إذن هي توحيد النطق و مخارج الحروف، بحيث يمكن أن تكون قادما من موريتانيا أو من العراق، و لكن تنطق الحرف العربي كما ينطقه الآخرون. هذا نظريا لأنه صعب الحدوث، و مع ذلك كان الرهان على التوحيد على مستوى مخارج الحروف. أقول هذا لأتوجه إلى الدعاة إلى تبني الدارجة لغة التدريس و الكتابة، و أستحضر عبارة “ما تقيش ولادي”، لو كانوا يتقنون النطق بمخارج حروف الدارجة كما ينبغي النطق بها لما كتبوا “ما تقيش”.
- ماذا أصاب هذه العبارة ؟
كل مغربي ينطق لغته نطقا سليما و يحافظ على مخارج الحروف كما هي، سيقول “ما تقيسش”، و ليس “ما تقيش”. ماذا سيفعل الدعاة إلى تدريس الدارجة و هم يتوجهون إلى طفل صغير السن، هل سيقولون له “ما تقيش”، أو “ما تقيسش” حتى يستوعب النفي الواقع في فعل “تقيس” قبل أن تدخل عليه “ما” المستعلمة للنفي، و أن “ش” لحقت بـ “تقيس” لرسم ذلك النفي للفعل. لاحظ هنا أنك لم تغادر لغة سيبويه و لم تتخلص منها و أنت تسعى إلى تدريس الدارجة و وضع نحو لها. زيادة على مناطق كثيرة من المغرب، لن تستعمل عبارة “ما تقيسش”، و إنما ستستعمل عبارة “ما تمسش”، و أكتفي بالتلميح إلى من يستعمل عبارة “ما تقيسش”.
إقرأ أيضا: