محمد عابد الجابري: الغرب والإسلام … بأي معنى؟
عرفت العقود الأخيرة، ومنذ الثورة الإيرانية بصفة خاصة، اهتماما متزايدا بموضوع “الغرب والإسلام”. ويلاحظ أن الاهتمام بهذا الموضوع كان ولا يزال في أوربا وأمريكا أكثر منه في البلاد العربية والإسلامية: فعلاوة على ما ينشر في الصحف والمجلات بمختلف اللغات الأوربية، وبصورة متواصلة تكاد تكون يومية، عقدت وتعقد، في مختلف جهات أوربا وأمريكا، ندوات في الموضوع نفسه، إما بنفس العنوان (الإسلام والغرب) وإما بعناوين مختلفة بعض الشيء. وقد تطور الأمر إلى أن توسع الكلام في هذا الموضوع ليندرج تحت ما أسماه صمويل هنتنغتون بـ “صراع الحضارات” الذي يعني به، أساسا، الصراع بين الحضارة الغربية، الأوربية الأمريكية، والحضارة الإسلامية (والكنفوشية)، وهو الصراع الذي يتركز عنده على محور “الغرب والإسلام” ويجعل منه الصراع الرئيس الذي سيسود في المستقبل.
إننا لا نريد هنا الانخراط في هذا النقاش من موقع إيديولوجي أو قومي، ولا من موقع المؤرخ، محايدا كان أو غير محايد! كل ما نريد فعله في هذه المحاولة هو القيام بنوع من التفكيك لهذه العبارة (الغرب والإسلام) التي صارت اليوم مشحونة بدلالات غامضة تجمع بين قلق الحاضر والخوف من المستقبل، وتستعيد في أحيان كثيرة معطيات ذاكرة تعمرها تصورات حول حوادث تاريخية معينة (الحروب الصليبية مثلا)، تصورات امتزجت فيها الحقيقة بالوهم والواقع بالمتخيل والخوف بالرغبة الخ… إن الهدف من عملية التفكيك التي نروم القيام بها هنا هو المساهمة في “تحرير” هذا الزوج (الغرب والإسلام) من الأفكار الموروثة والمسبقة، ومن البطانات الوجدانية التي تؤسس العلاقة بينهما في الوعي المعاصر، في بلاد الغرب كما في بلاد الإسلام.
إن الأمر يتعلق، إذن، بتفكيك المضامين الإيديولوجية، الصريحة والمضمرة، التي تجعل من عبارة “الغرب والإسلام” اليوم أداة اختزال للمتعدد، وإغلاق للمنفتح، ونَظْم ونَسْق لما هو بطبعه يقع خارج النُّظُم والأنساق. ومن أجل تحقيق هذا الغرض بأكبر قدر من الوضوح والشمول سنتحرك على المستويات الثلاثة التالية: مستوى المرجعية الدلالية لمقولتي “إسلام”، “غرب”، ثم مستوى العلاقة التقابلية، أو الغيرية، التي يقيمها “واو العطف” بين هاتين اللفظتين، لنختم أخيرا بالتحرك على مستوى تعدد أنماط الوعي بـ “الآخر”، حيث سنختار نمطا معينا نكشف من خلاله عن نوع آخر من “الغيرية” غير غيرية النفي والاستبعاد والتحدي والصراع الخ…
ولكن، لنبدأ أولا بإبداء ملاحظتين:
الملاحظة الأولى مفادها أن التقابل الذي يراد تضمينه لهذه العبارة غير مبرر وغير مشروع، ابتداء. ذلك لأن الأمر يتعلق هنا بمقولتين مختلفتين في “الطبيعة”، لا تقوم بينهما علاقة تقابل أصلا: فـ “الغرب” مقولة جغرافية، و “الإسلام” دين. والتقابل إنما يكون بين المختلفات التي تندرج تحت جنس واحد كالتقابل بين الغرب والشرق الذين يجمعهما كونهما معا جهة جغرافية، والتقابل بين الإسلام والمسيحية اللذين يجمعهما جنس يندرجان تحته هو “الدين” الخ… هذه حقيقة تكاد تكون بديهية. دليل ذلك أننا لو سمعنا مثلا عبارة من قبيل “الشمال والإسلام” أو “الجنوب والمسيحية” لاَنْتَابنا استغراب ودهشة مَردُّهما أننا نحس بأن الجمع بين هاتين المقولتين غير مبرر، غير مألوف، وبعبارة القدماء “غير معروف بنفسه”، بمعنى أنه يحتاج إلى بيان وتبرير.
فلماذا لا يشعر الناس، اليوم، في بلاد الغرب كما في بلاد الإسلام، بوجود مفارقة عند الجمْع في خطابهم بين “الغرب والإسلام”، بينما يشعرون بالمفارقة والاستغراب حين الجمع، مثلا، بين “الجنوب والإسلام” أو “الشمال والبوذية”؟
لاشك أن لتكرار العبارات دورا في التعود عليها والاستسلام لها. غير أن التكرار هنا لا يفسر كل شيء فالحمولة الدلالية والرمزية التي لعبارة “الغرب والإسلام”، وكذا البطانة الوجدانية الملازمة لها، ليستا نتيجة لمجرد تكرار الألفاظ. فالتكرار الذي من هذا النوع يعمل في العادة على التخفيف من حدة الأشياء، مادية كانت أو معنوية، أعني أنه يجعلها من المألوف اليومي الذي لا يثير تساؤلا ولا نقاشا، ولا يخطر بالبال أن تعقد من أجله ندوات ولقاءات وتكتب فيه مجلدات. وإذن فالأمر يتعلق بتكرار من نوع آخر: تكرار المخاوف والرغبات بفعل مؤثرات ودوافع تَجِد مصدرها في قراءة معينة لأحداث معينة، قراءة المتشابه من الحوادث بواسطة أفكار يتلقاها الناس خلفا عن سلف، أو بتوجيه من أحكام مسبقة، كما سنبين فيما بعد.
أما الملاحظة الثانية التي نريد تسجيلها هنا ونحن بصدد التقديم لعملية التفكيك لعبارة “الغرب والإسلام” في الخطاب المعاصر، الأوربي منه والعربي، فهي أن المقولتين كلتيهما (الغرب، الإسلام) تخضعان عند وضعهما متقابلتين لوحدة إيديولوجية تخفي النسبية والتعدد على صعيد الماهية في كل منهما. “الغرب” في الاصطلاح الجغرافي نسبي ومتحرك: فالشيء الواحد يكون غربا بالنسبة لشيء معين ويكون شرقا بالنسبة لشيء آخر. أما في الاصطلاح السياسي الراهن فـ “الغرب” متعدد يضم عدة دول وعدة قوميات. فهناك أمريكا الشمالية والدول الأوربية. وهناك أيضا أمريكا اللاتينية وروسيا واليابان.. هل تدخل هذه الأخيرة كلها في مفهوم “الغرب”، وبأي معنى؟
والشيء نفسه يقال بالنسبة لـ”الإسلام”: فسواء قصدنا من لفظ “إسلام” نوعا من الممارسة الدينية وحدها أو قصدنا به “المسلمين” فالتعدد يفرض نفسه: فهناك الشيعة والسنة ومذاهب أخرى من جهة، وهناك العرب والأتراك والإيرانيون والباكستانيون والاندونيسيون والنيجيريون الخ… وهذا التعدد واقع حقيقي، سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وحضاري، وذلك إلى درجة تجعل من المبرر تماما التساؤل: ما الذي يجمع هذه البلدان والشعوب لتوضع في مقابل بلدان وشعوب أخرى تندرج تحت اسم “الغرب”، الذي يحيل هو نفسه إلى متعدد كما رأينا؟
هناك إذن وحدة إيديولوجية -أو بالأحرى تعميم إيديولوجي- يخفي هذا التعدد بهدف إظهار علاقة التقابل بين “الغرب والإسلام” كعلاقة مقبولة ابتداء. والخطوة الأولى التي علينا القيام بها هنا هي تفكيك هذه الوحدة/التعميم والكشف عن خلفياتها، وسيكون سبيلنا إلى ذلك هو النظر في الكيفية التي تتحدد بها كل من المقولتين (الغرب، الإسلام) داخل الحقل الثقافي لكل منهما.
***
بالنسبة للمرجعية العربية الإسلامية يمكن أن نلاحظ بادئ ذي بدء أن عبارة “الغرب والإسلام” عبارة طارئة نقلت إليها بالترجمة الحرفية من اللغات الأوربية. ليس هناك في النصوص القديمة مثل هذا التعبير، أما النصوص الحديثة التي ترجع إلى بداية القرن التاسع عشر على الأكثر فمن النادر جدا العثور فيها على هذا التقابل بين “الغرب” و”الإسلام”. ذلك أن العبارة التي برزت في أواخر ذلك القرن وأوائل القرن العشرين، في الخطاب العربي الإسلامي، هي عبارة ” الإسلام والنصرانية” وذلك في إطار المقارنة بين موقف كل من الإسلام والمسيحية من العلم والعقل الخ.. (قارن مثلا: كتاب محمد عبده: “الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية).
أما اصطلاح “الشرق والغرب” الذي شاع في الخطاب السياسي الأوربي منذ القرن التاسع عشر فهو، في المرجعية العربية الإسلامية، محكوم بالنسبية والتعدد إلى حد كبير. ففي القرآن: “ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب” (البقرة 177) – (والمشرق هنا بالنسبة للمخاطبين المباشرين : المسلمين في المدينة) هو الشرق عموما، قبلة اليهود، والمغرب هو القدس قبلة النصارى – وأيضا: “رب المشرقين والمغربين” (الرحمان 17)، وأيضا: “فلا أقسم برب المشارق والمغارب” (المعارج 40). وفي زمن ابن سينا كان “المشرق” و”المشرقيون” هم فارس وأهلها شرقا، بينما كان “المغرب” و”المغربيون” هم بغداد وأهلها وما يليها غربا. ثم تخصص لفظ “المغرب” فيما بعد للدلالة على ما يلي مصر غربا، وتم التمييز فيه بين المغرب الأدنى ( طرابلس وتونس) والمغرب الأوسط (الجزائر) والمغرب الأقصى (المغرب الحالي)، ثم ظهرت عبارة “الغرب الإسلامي” لتشير إلى بلدان شمال إفريقيا والأندلس.
وبالجملة لم تكن كلمة “غرب” في المرجعية العربية الإسلامية تعني في يوم من الأيام وجود “آخر” يقع بالتحديد خارج بلاد الإسلام، ولا دينا ولا حضارة تمثل “الآخر” بالنسبة للإسلام، و إنما صارت هذه الكلمة تحمل بصورة ما هذه المعاني جميعها من خلال الترجمة من اللغات الأوربية. وهكذا فاصطلاح “الغرب” Occident, West أي الدول الغربية، و”الشرق” Orient, East بمعنى دول الشرق، هما معا ترجمة من اللغات الأوربية التي ميزت في هذا الأخير بين الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى، وذلك حسب القرب والبعد من أوربا.
هذا عن “الغرب”. أما “الإسلام” فهو يحيل، في المرجعية العربية الإسلامية، إلى الدين الذي جاء به النبي العربي محمد بن عبد الله. ذلك ما نجده في المعاجم العربية. ففي “لسان العرب” مثلا نقرأ: الإسلام: إظهار الخضوع وإظهار الشريعة والتزام ما أتى به النبي (ص). وعلى العموم، ليس هناك في المرجعية العربية الإسلامية معنى آخر للإسلام غير مضمونه الديني ذاك. وهو مضمون يتسع في القرآن ليشمل الديانات السماوية التي تنتمي إلى دين إبراهيم: “إن الدين عند الله الإسلام” (آل عمران 19)، “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه” (آل عمران 85)، فـ “لإسلام” هنا هو دين إبراهيم، والمقصود دين التوحيد، في مقابل الشرك والوثنية.
أما عبارة: “دار الإسلام” ومقابلها “دار الحرب” فهما مصطلحان فقهيان متخصصان ينتميان إلى مصطلح “القانون الدولي” في العصور الإسلامية الأولى، عصور الفتوحات… وبما أن المستشرقين قد أكثروا من اللغط حول هذين المصطلحين فقد ينبغي تفصيل القول فيهما حسب ما قيل عنهما في المرجعية الإسلامية.