عبد الله العروي: التدريس بالدارجة يروم تقويض الوحدة الوطنية ج1
أجري هذا الحوار مع المفكر المغربي عبد الله العروي من طرف جريدة الأحداث المغربية في عدد 20 نونبر 2013
- قلتم قبل انطلاق الحوار إن موضوع التدريس بالدارجة المغربية هو الذي أخرجكم من المخبئ حيث تقبعون. كيف ذلك ؟
أخرجني من مقبعي لأنني أنظر إلى أبعاده التي تروم تقويض الوحدة الوطنية. هذه قناعتي الراسخة في ما يخص موضوع التدريس بالدارجة. سبق لي منذ شهرين، أن تحدثت في هذا الموضوع مع ابن شقيقي الكاتب فؤاد العروي المغترب في هولندا، و قلت له صراحة أنا لا أتفق معك في ما كتبته حول الدارجة، و أن هذه القضية أنجزت حولها بحوثا، و أعلم أنه لم يطلع على ما كتبته في كتاب “ديوان السياسة” حيث لخصت جميع آرائي حول الدارجة، و قدمت له أمثلة لا تعد و لا تحصى لأبين له أن هذه القضية لن تطبًّق، و أن نتائجها ستكون عكس ما كان يتوخى منها، و أنها تقوم على خلط كبير.
- ما هو هذا الخلط ؟
الدارجة لكي ترسم يجب أن تكتب بحروف مناسبة. ما هي هذه الحروف ؟ إما أن تكتبها بالحرف العربي و إما أن تكتبها بالحرف اللاتيني، لكن إذا اخترت كتابتها بالحرف اللاتيني فعليك أن تخلق حروفا جديدة كما فعل الأتراك لما اختاروا كتابة اللغة التركية بالحرف اللاتيني، و حتى عندما تنجح في هذه المهمة، فهل هذا ممكن أو غير ممكن. إذا كان ذلك ممكنا فحينها ستستقل الدارجة و تصير لغة قائمة الذات، و تنفصل حينئذ عن اللغة الأم. هذا ما حصل في جميع البلدان التي انفصلت فيها اللغات الشفوية عن اللغة الأم. هذا موضوع يهمني و أهتم به كثيرا، و يحتاج مني إلى ثلاثة أيام و ليس إلى ثلاث ساعات.
- لنعد الآن إلى أصل هذا النقاش ككل، لنعد إلى توصية التدريس بالدارجة.
إذا كانت النقطة الأولى تتمثل في مشكل التلميذ الذي يلتحق بالمدرسة، و تمر عليه خمس سنوات و لا يحسن لا القراءة و لا الكتابة مقارنة بالتلميذ الإنجليزي أو الفرنسي و الإسباني. إذن المشكل المطروح هو قضية التواصل، و هنا تدخل توصية التدريس بالدارجة المغربية التي خرجت بها ندوة “سبيل النجاح”. لكن يا سادتي، التواصل هو موضوع الشفوي و الثقافة الشفوية لها آلاف السنين لما انفصل الإنسان عن الحيوان، و وقف على قدميه و صار يستعمل يديه و يشتغل بهما، و بدأ يستعمل حنجرته في إنتاج الأصوات. هنا دخل الإنسان في الحضارة الشفوية، التي لها تعابير مختلفة و مواصفات خاصة بها، ثم دار الزمان و انتقل الإنسان منذ سبعة آلاف سنة إلى مستوى الكتابة أو استعمال الرمز في بلاد الرافدين. لا غرض لنا بالدخول في تفاصيل هذا الموضوع، ما يهمنا أن الشفوي لم ينحسر و لم ينته أمره بانتقال الإنسان إلى عهد جديد هو عهد الكتابة، بل على العكس، استمر في الوجود إلى جانب الكتابة. استمر الشفوي في الوجود على مستوى معين، إما على مستوى العائلة أو القبيلة الصغرى أو الكبرى، ليضمن التفاهم على هذا المستوى، إذ لا يمكن التفاهم مع قبيلة أخرى أو منطقة أخرى، خارج القبيلة. لضمان التفاهم مع هذا الخارج لابد من الرمز، الذي هو الكتابة، و الكتابة هنا كانت إما مسمارية أو هيروغليفية، و إما أبجدية أو فنا، و كما فعل ذلك الملك في حكاية ألف ليلة و ليلة، لما حلق شعر شخص بكيفية مخصوصة و أرسله إلى الشخص المعني على أساس أن تلك الكيفية في حلق شعره رسالة موجهة إليه، و عليه أن يقرأ رمزها و يفهمه. ما أريد قوله هنا إن انفصال الإنسان عن الحيوان لم يلغ حيوانية الإنسان، و لكنه أضاف إليها شيئا آخر، كذلك الأمر بالنسبة للكتابة التي لم تلغ الشفوي، و استمر هذا الأخير إلى جانب الكتابة. الكتابة أضافت شيئا جديدا إلى الشفوي.
- هذه النقطة تحتاج إلى المزيد من التوضيح حتى يستوعبها القارئ.
نسمي المكتوب كتابا، و نسمي المدرسة كُتّابا، و المتعلم هو الذي يعرف الحروف و تعلم كيف يفك رموزها بقراءتها و فهمها. لذلك جاءت المدرسة، و هذه هي الغاية المتوخاة من المدرسة. المدرسة لا علاقة لها بالبيت، و المدرسة لا تربطها أدنى صلة بمسائل التفاهم خارج البيت و في الشارع. هنا تدخل رجل متخصص في الشفوي و أموره العينية، في شؤون المدرسة التي هي شؤون الكتابة، و لا علاقة لها بالشفوي و التواصل في البيت و الشارع. العربية هي لغة الكتابة، و لا دخل لها في شؤون التواصل في البيت و الشارع، و هي لغة المدرسة. إذا كان الطفل يبلغ خمس سنوات، و بدأ تفسر له الأمور تفسيرا شفويا، عليك أن تعلمه الرمز. ينبغي تعليم الطفل الرموز الكتابية. أقدم هنا مثالا نادرا ما يفكر فيه المهتمون بهذا الشأن، يتعلق الأمر بالموسيقى، و الموسيقى الشعبية على الخصوص، الجميع يعلم أن هذه الموسيقى تلقائية، و حتى يتم الحفاظ عليها ينبغي كتابتها حتى لا تضيع.
كتاب الأغاني للأصفهاني لم يدون الأغاني بالنوتة المعروفة الآن فضاعت تلك الألحان لأننا لا نعرف كيف نفك تلك الرموز التي كتبت بها الأغاني أيام العباسيين. الأمر نفسه بالنسبة للأوربيين الذين يجهلون كيف كان الغناء لدى الإغريق القدامى، لأن تلك الأغاني لم تكتب كتابة موسيقية تحافظ عليها، و تنقلها للأجيال.
- ما علاقة هذا الكلام بالتدريس بالدارجة عوض العربية ؟
إذا سايرنا هذا المنطق، و أردنا أن نحافظ على موسيقانا المغربية، هل نقول “ماذا سنستفيد من تعليم الطفل و هو يتعلم رموز تلك الكتابة الموسيقية؟ لا غرض له بكل ذلك و لن ينفعه في تعلم تلك الموسيقى، يكفيه أن يتعلم تلك الأغاني تعلما شفويا” ! هل ستقبل هذا القول؟ ! لا فرق بين هذا المثال و قضية تعليم الطفل رموز اللغة المكتوبة. المشكل أننا لا نهتم بهذا الموضوع و لا نفكر فيه. ابني يبلغ خمس سنوات و ألحقته بالمدرسة و طالبت المعلم بأن يتحدث إليه بلغته التي هي الدارجة، ماذا سيعلمه بتلك اللغة ؟! هل سيتحدث المعلم إلى الطفل ليعلمه لغته التي تربى عليها و يتقن التحدث بها ؟! هل سيلقنه الكلام الذي يتكلم به؟! هذه هي الأسئلة التي لا يطرحها المطالبون بتعليم الطفل أمورا أخرى غير لغته التي يتحدث بها في البيت. سيعلمه القراءة و الحساب. سيعلمه الحروف و كيف يقرؤها و يربط بينها في الكلمات، و سيعلمه قراءة الأرقام و الأعداد. هذه هي مهمة المدرسة و دورها عندما يلتحق بها الطفل. دور المدرسة ليس هو تعليم الطفل اللغة التي يتحدث بها في البيت. أطرح هذا السؤال، ألا يقوم الأستاذ بتعليم الحساب و اللغات للطفل بالدارجة في المستوى الأول و الثاني و الثالث ؟ هل يعلمه ذلك بلغة سيبويه؟! و بالتالي فالدعوة إلى تدريس الطفل بالدارجة، إما هي زائدة، أو أن لها توخيات أخرى غير تلك المعبر عنها في الظاهر، و التي لا علاقة لها بالتعليم و لغته.
- في هذه النقطة بالذات، كيف تردون على صاحب الدعوة إلى التدريس بالدارجة ؟
يمكن أن نتوجه إلى صاحب الدعوة إلى التدريس بالدارجة، و نقول له “نتفق معك في ما تدعو إليه، و سنتحدث في المدرسة مع الطفل الذي يبلغ عامه الخامس بلغته الأم، و سنعلمه كيف يقرأ و يكتب، يعني أننا سنعلمه الحروف، فهل هذه الحروف ستكون حروف الدارجة أم ستكون حروف لغة أخرى، إما العربية أو البربرية أو الإنجليزية؟ و سنعلمه رموز الحساب، و التمييز بين الرمز 4 و 5 أو 6، و نفسر له الفروق بينها و العمليات الممكنة بينها، سنعلمه كل هذا الدارجة، و سيقى المضمون هو الحساب. سيقضي الطفل ثلاث سنوات الأولى في التعلم بهذه الطريقة، و إذا قارناه بتلميذ إسباني في سنه، سنجد أنهما يتوفران على نفس المستوى. هنا لن يعترضنا أدنى مشكل على مستوى تدريس الطفل بلغته، و ليس هناك جهة تحارب تعليم الطفل بالدارجة في السنوات الأولى، و هذه الطريقة هي المعمول بها في المدرسة المغربية، و إذا اختار المسؤولون فرضها على المدرسين فلا بأس في ذلك، و سنلزمهم بألا يتحدثوا إلى الطفل عن الإعراب و النحو أو الصرف، و أي معلم خرق هذا الأسلوب في التعليم، سنخصم من أجرته نسبة معينة. عندما سيبلغ هذا الطفل عامه الثامن، سيكون قد أتقن الحساب و عملياته بالدارجة مثله في ذلك مثل البقال، و أتقن التعبير عن نفسه بلغته. أريد هنا تسجيل ملاحظة أراها غاية في الأهمية، و هي أن الطفل سيعبر عن نفسه أحسن بالعربية المعربة، و لكم أن تجربوا قراءة الدارجة مكتوبة بحروف عربية، فأكيد أنكم ستلاقون صعوبة كبيرة أثناء قراءة كلمات الدارجة. بل حتى كتابة الدارجة بحروف لاتينية لن يحل هذا المشكل، مقارنة بسهولة قراءة كلمات العربية المعربة.
- من الأفضل أن نعود إلى ذلك الطفل و هو يتابع تعلمه بالدارجة.
أعود إلى الطفل و قد بلغ عامه الثامن، و قضى ثلاث سنوات في التعلم بلغته الأم، كيف سنتعامل معه ؟ هل نستمر في تدريسه بالدارجة ؟ هل نمر إلى تعليمه التربية الفنية و التربية العلمية و الثقافية ؟ ليس هناك مشكل من تدريس الطفل الموسيقى و الرسم بلغته الدارجة. أما بالنسبة للتربية العلمية فعكس ما يقال حول المشاكل التي تواجه العربية في تدريس العلوم، لأن التربية العلمية ليس لها مشكل مع أي لغة، لا مع العربية و لا مع الدارجة أو أي لغة أخرى، لأنها مبنية على رموز خاصة كالرقم 5 أو 6، و لأنها رموز كونية يستعملها الجميع، نحن في المغرب اخترنا الرقم العربي، بينما اختار المشارقة الرقم الهندي. كلما تقدم الطفل في التعلم كلما توسعت الرموز و تقدمت معرفته بها في الحساب و الرياضيات و علوم الحياة.
- أين سيعترضنا المشكل بالتالي ؟
المشكل سيعترضنا في التربية الأدبية، لأن هذا الطفل الذي بلغ الآن عامه الثاني عشر، و علمته في السنوات الأولى بلغته الدارجة، و تقدم في مستويات تعلم الكتابة بالحرف العربي و حتى الحرف اللاتيني كما نادى بذلك بعض اللبنانيين، و صادر قادرا على كتابة الدارجة و قراءتها، هنا ستنقطع صلته بالعربية المكتوبة و نصوصها. يمكن أن ينجح في حفظ بعض الآيات القرآنية في حصة التربية الدينية، مثله في ذلك مثل أي تلميذ أوربي ينجح في حفظ مقاطع من الإنجيل باللغة اللاتينية، دون أن ينجح في فهم معناها. سيصير التلميذ هنا كأي مسلم غير عربي في ماليزيا أو أندونيسيا، ينجح في حفظ تلك الآيات و ترديدها صوتيا دون فهمها. يمكن أن يكون هذا التلميذ متفوقا في عامه الثاني عشر، في العلوم و التربية الفنية، و لكن ما هي النصوص التي سيتفوق في قراءتها في القسم و البيت ؟ بل، ما هي النصوص التي سيعتمد عليها ليتعلم ؟ ستعلمه قراءة ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب ؟! و هو شاعر كبير بالدارجة. أنا أستاذ اللغة العربية، و أمامي تلميذ تعلم بالدارجة في سنواته الأولى، و قررت أن أدرسه ديوان هذا الشاعر المغربي الكبير، لأنني لا أتوفر على نصوص أخرى، كيف سأفسر له أدبيا أبيات قصائد ذلك الديوان (لا تحسبوها رخصية راه كل معشوق غالي)؟ ما هو معناها ؟ ما هو مغزاها ؟ سأضطر إلى ربط تلك القصائد بالتصوف و سأعمل على تلقين تلامذتي ما هو التصوف و تاريخه، و سأجدني مجبرا على تدريس التربية الدينية التي اعتقدت أن الدارجة ستبعدني عنها. أكثر من ذلك، فإن أنا أردت تربية الذوق الفني لدى التلميذ، علي أن أفسر له ذلك الشعر المكتوب بالدارجة، و لا يمكن أن أفسره إلا بالعودة إلى الوزن العربي الأصيل. هذه العملية ضرورية لتحقق الفهم لدى ذلك التلميذ إذا كان ناطقا بالعربية، أما إذا كان أمازيغيا فذلك أمر آخر. ما أريد الوصول إليه من هذا الكلام، أن المشكل لن يكون مطروحا في السنوات الأولى من التعليم بالدارجة، و أن التلميذ سيتفوق في الرياضيات و علوم الحياة. المشكل سيطرح في السنوات الأخرى لما يتقدم ذلك التلميذ في مستويات التعلم، حين يجد الأستاذ نفسه أمام سؤال “ما هي النصوص التي سأدرسها لهذا التلميذ؟”، سيرد الدعاة إلى التدريس بالدارجة، بالقول “خاصنا نخدمو الداريجا و نصوصها”. طيب، نتفق معكم في هذه الدعوة، لكن كم سنحتاج من الوقت لنخدم هذه اللغة حتى تصير قائمة الذات و قادرة على أن تكون لغة تدريس و ثقافة؟ مائة عام على الأقل ! حينها إلى أين سيصل الآخرون في المشرق، مقارنة بنا نحن الذين تفرغنا لخدمة الدارجة ؟!
إقرأ أيضا: