آداب الحرب في الإسلام … ومعنى الإرهاب في القرآن!
تعني كلمة “آداب” في اصطلاح فقهاء الإسلام وغيرهم ما نعبر عنه نحن اليوم بـ “أخلاقيات”. والمقصود بها بيان الوجه الأفضل في كل سلوك والحث عليه. فللأكل آداب، وللسفر آداب، وللوضوء والصلاة والصيام والزكاة الخ آداب (زيادة على فرائضها وسننها ومستحباتها…).
من آداب الحرب وأخلاقياتها التي أولاها الفقهاء عناية خاصة (علاوة على ما سبق ذكره بخصوص الصلح والأمان) ما يتعلق بتصرفات المسلمين أثناء الحرب مع الكفار، مثل من يقتل ومن لا يقتل، وما يجوز إتلافه وما لا يجوز الخ، كل ذلك نظمته أحاديث كثيرة وأفعال صدرت من النبي والصحابة وبنى عليها الفقهاء حكم الشرع فيها. من ذلك ما روي عن النبـي (ص) من أنه نهى عن قتل النساء والصبـيان فـي دار الـحرب. واعتمد الفقهاء هذا في فهم هذه الآية : “وَقَاتِلُوا فِـي سَبِـيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” (البقرة -190)، فقالوا إن من لا يقاتل من أهل دار الحرب لا يجوز قتله مثل النساء والصبـيان، وأضاف الإمام مالك والإمام أبو حنيفة : الأعمى والـمعتوه والـمقعد وأصحاب الصوامع الذين طينوا الباب علـيهم ولا يخالطون الناس. وأضاف الإمام مالك أنه يجب أن يترك لهم من أموالهم ما يعيشون به. ومن خيف منه شيء قتل. وقال الإمام الأوزاعي : لا يقتل الـحراث والزراع، ولا الشيخ الكبـير، ولا الـمـجنون، ولا راهب، ولا امرأة. وهذا لأن المعروف عادة أن هذه الأصناف لا تشارك في القتال لأنها لا تقوى عليه. والمبدأ هو : لا يجوز قتل من لا يقاتل. “فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها” وكذل الشأن في غيرها ممن ذكر.
ومن ذلك أيضا قول عمر بن الخطاب للجند من المسلمين : “لا تغلو (لا تخونوا، لا تسرقوا من الغنيمة)، ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين”. وذكروا أن النبي (ص) وأصحابه مروا على امرأة مقتولة فوقف رسول الله عليها ثم قال : “ما كانت هذه لتقتل، ثم نظر في وجوه القوم فقال لأحدهم: الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا (أجيرا) ولا امرأة”.
أما تحريق العدو بالنار أثناء الحرب فقد رووا في شأنه حديثا عن النبي قال فيه :”…ولا تحرقوا بالنار، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار”. وأجاز بعض الفقهاء ذلك إذا لم يُقدَر على العدو إلا بذلك. أما قطع الشجر والثمار وتخريب العامر (البيوت والمنازل وسائر مظاهر العمران) وقتل المواشي و تحريق النخل فقد عبر كثير من الأيمة عن كرههم لذلك : فقد كره الأزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذاك. وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل. وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم تكن لهم معاقل. ويروى عن أبي بكر: “لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا”. وقالوا: أحسن الناس قتلة: أهل الإيمان. أي الذي يلتزمون بالأخلاق الكريمة التي تميز المؤمن. وفي هذا الإطار أكد فقهاء الإسلام تأكيدا خاصا على أن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان فعليه أن لا يتعرض لهم بغدر ولا لما في أيديهم بدون رضاهم، فإذا أخذ برضاهم أخذ مالاً مباحاً بلا غدر فيملكه بحكم الإباحة السابقة…
فأين هذا مما تمارسه إسرائيل اليوم في الضفة والقطاع من حرق لأشجار الزيتون وغيره، وهدم للمنازل وتخريب للعمران وقتل للأطفال والنساء والعجزة الخ. وأين من ذلك أيضا ما قامت به القوات الأمريكية في العراق 1991 حيث وجهت صواريخها وأدوات التدمير الجهنمية إلى العمران بدون استثناء، إلى الجسور وقنوات مياه الشرب وشبكات الإنارة وإلى الملاجئ ودور المدنيين، فضلا عن إحراق الحرث والنسل. وقد فعلت مثل ذلك في أفغانستان وتستعد اليوم لتكراره في العراق. إن أقل ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن إسرائيل وأمريكا تمارس الحرب بدون أخلاق، بدون آداب. حرب الجهالة الجهلاء، حرب الإرهاب بالمعنى المعاصر للكلمة.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فلنغتنم هذه المناسبة لتوضيح المقصود بعبارة وردت في آية قرآنية استغلها خصوم الإسلام للطعن في أخلاقياته. والغريب أن بعض المتطرفين من المنتسبين إلى “الإسلام السياسي” قد تبنى المعنى نفسه الذي يريد خصوم العرب المسلمين إلصاقه بالإسلام زورا وبهتانا!
يتعلق الأمر بعبارة “ترهبون به عدو الله وعدوكم” الواردة في قوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم” (الأنفال 60-61).
فخصوم العرب والمسلمين عندما يقرءون هذه الآية أو يسمعون عنها يرمون الإسلام بالدعوة إلى “الإرهاب” ويقصدون بذلك المعنى المعاصر للكلمة. وقد قبل بعض المتطرفين هذا المعنى، ولسنا ندري لماذا؟
المهم بالنسبة إلينا هو أن نقرر أنه ليس فيما ذكره جميع المفسرين ما يفيد أن عبارة “ترهبون به عدو الله” الواردة في الآية المذكورة، تعني “الإرهاب” بالمعنى المعاصر للكلمة. بل كلهم مجمعون على أن معناها هو التخويف، وهو معناها في جميع قواميس اللغة. والفعل من “رهب، يرهب” بمعنى خاف. وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى: “وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون” (البقرة 40) وقوله” إنما هو إله واحد فإياي فارهبون” (النحل 51)
وإذن فعبارة “ترهبون به عدو الله…” لا تحتمل إلا معنى واحدا هو تخويفه. وقد شرح الفخر الرازي المقصود بالآية فقال: “وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أموراً كثيرة: أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام. وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية. وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعياً لهم إلى الإيمان. ورابعها: أنهم لا يعينون سائر لكفار. وخامسها: أن يصير ذلك سبباً لمزيد الزينة في دار الإسلام”. وإذن فالهدف من إرهاب العدو وتخويفه بإظهار الاستعداد والقوة ليس من أجل التغلب عليه في الحرب وحسب، بل أيضا من أجل حمله على ترك الحرب واللجوء إلى “الحلول السلمية” بعبارتنا المعاصرة. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى مباشرة، بعد آية “ترهبون به عدو الله وعدوكم”: ” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم”. فكأن نتيجة إرهاب العدو بمعنى تخويفه ستكون : جنوحه للسلم، وإذا حصل هذا صار التخلي عن الحرب واجبا.
وقصارى القول إن “دار الحرب” في التصور الإسلامي ليست دار قتال دائم، كما يتصور خصوم الإسلام. بل هي “دار الآخر” الذي يقاتل المسلمين، أما من يقوم بينهم وبين المسلمين صلح أو أمان (أي ما نعبر عنه اليوم بـ”العلاقات الديبلوماسية” فالمسلمون معهم في حالة سلم مؤقت أو دائم، حسب الأحوال وما تقتضيه المصلحة. وأما عبارة “ترهبون” في الآية المذكورة فمعناها التخويف.. ليس من أجل كسب الحرب وحسب بل أيضا من أجل الاستغناء عنها إذا أدى التخويف دوره.
***
وبعد فقد اضطررنا إلى هذا الاستطراد الذي عرضنا فيه لمفهوم “دار الحرب” في الإسلام، لنزيل لبسا كرسه بعض المستشرقين بإقامتهم نوعا من التطابق بين عبارة “الإسلام الغرب” التي نبتت في الفكر الأوربي وتكرست فيه، وبين عبارة “دار الإسلام ودار الحرب” التي هي عبارة إسلامية فقهية. أما وقد ارتفع هذا اللبس –فيما نعتقد- فلنعد الآن إلى موضوعنا ولننظر إلى مقولتي “الغرب” و”الإسلام” كما يتحدد معناهما في المرجعية الأوروبية. ولنبدأ بمقولة “الغرب”.
في المعاجم الأوربية المعاصرة يتم التمييز بين “الغرب”occident كجهة جغرافية وبين “الغرب” Occident (بحرف O الكبير للدلالة على العلمية) كاصطلاح جيوسياسي يطلق على: 1) “جزء العالم القديم الذي يقع غربا في الأمبراطورية الرومانية”. 2) أوربا الغربية والولايات المتحدة، وبكيفية عامة الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي 3) بلدان أوربا الغربية والولايات المتحدة بالتحديد. وقد تختص بهذا المعنى كلمة West ( Ouest بالفرنسية).
ويتضح هذا المعنى الاصطلاحي لكلمة “غرب” باستحضار المقابل الخاص بها في اللغة السياسية الأوربية. فـOccident استعملت أولا في مقابل الـ “لوفان” Levant (المشرق = جهة شروق الشمس)، وذلك منذ أوائل القرن السادس عشر، وكان يقصد به الدول التي توجد في الشرق بالنسبة لفرنسا، وخاصة منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. ثم استعملت في مقابل Orient (جهة مشرق الشمس) ويشار بها إلى آسيا وأحيانا إلى دول البحر الأبيض المتوسط وأوربا الوسطى. ويصنف الشرق إلى شرق أقصى وشرق أوسط وشرق أدنى حسب قربه أو بعده من أوربا. وأما كلمة Est, East وتعني في الأصل الشرق الجغرافي فقد تخصصت خلال الحرب الباردة في الدلالة على دول المعسكر الشيوعي، وذلك في مقابل “الغرب” Ouest , West الذي يراد به، في هذا السياق، دول المعسكر الرأسمالي.
واضح إذن أن التقابل بين أوربا/المشرق Europe/Levant من جهة والشرق/ الغرب Orient/ Occident من جهة أخرى، تقابل يعكس التصنيف السائد في مرحلة التوسع الاستعماري وبالخصوص خلال النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن، بينما يعكس التقابل بين الشرق/الغرب Est/Ouestالصراع بين الرأسمالية والشيوعية خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية.
وهكذا فكلمة “غرب“، في المرجعية الأوربية غنية بالدلالة، فهي تشير إلى “أنا” تتنوع هويته بتنوع الأطراف التي يتخذها مقابلا له: شرق (أدنى أو أوسط أو أقصى)، أو معسكر شيوعي (سابقا)، هذا بينما لا تحمل هذه الكلمة في المرجعية العربية غير معناها الجغرافي الذي يشير إلى جهة غروب الشمس. وهي لم تستعمل في العربية بنفس المضامين التي تحملها في المرجعية الأوربية إلا في وقت متأخر نقلا عن هذه المرجعية نفسها.
تبقى بعد هذا مقولة “الإسلام” في المرجعية الأوروبية…!
موضوع آخر.