محمد عابد الجابري: العرب يتكلمون لغة أحدثت في لغتهم ..!
كيف يتصور العقل الأوربي “الإسلام”؟ وبعبارة أخرى ما هي الدلالة أو الدلالات التي يعطيها لهذه الكلمة خصوصا في عبارة “الإسلام والغرب”!
إذا رجعنا إلى دائرة معارف لاروس الفرنسية لسنة 1962، مثلا، فإننا سنجد كلمة “إسلام” Islam تطلق على: 1) دين المسلمين. 2) مجموعة البلدان التي تعتنق دين الإسلام. أما إذا فتحنا قاموس لاروس الصغير لسنة 1994 فإننا سنجده يضيف معنى ثالثا، إذ يعدد دلالات لفظ “الإسلام” كما يلي: 1) دين المسلمين. 2) العالم الإسلامي. 3) الحضارة التي تميزه. وعلى العموم يمكن القول إجمالا إن معنى “الإسلام” في القواميس الغربية ينصرف اليوم إلى ثلاثة أمور: الدين الإسلامي، البلدان والشعوب الإسلامية، والحضارة الإسلامية.
من أين جاءتها هذه المعاني الثلاثة؟
أكيد أنها لم تستقها من المعاجم العربية فهي خالية من هذا التعدد ولا تعرِّف الإسلام إلا بكونه الدين المعروف بهذا الاسم. وإذن فالمعاني الثلاثة التي تعطيها القواميس الغربية لكلمة “إسلام” تشير إلى “أطراف” وضعت ليكون كل منها كالمقابل لأحد المعاني التي تحملها كلمة “غرب” في المرجعية الأوربية. وهكذا فـ “الغرب” مسيحي و”الإسلام” دين (إسلامي). والغرب أقطار وشعوب، و”الإسلام” أقطار وشعوب كذلك. والغرب حضارة وقيم، و “الإسلام” حضارة وقيم كذلك.
وبعابرة قصيرة : “الإسلام” هنا هو الآخر/ المرآة التي يرى فيها الغرب نفسه. إن الغرب يسقط على “الإسلام” تقسيماته وتعدديته ويجعل منه “الآخر” لكل وجه من وجوهه: فالإسلام آخر على مستوى الديانة، وآخر على مستوى البلدان والشعوب، وآخر على مستوى الحضارة والقيم. وهكذا يتحدد الإسلام، في مرجعية الغرب، لا بما هو في نفسه، بل بما هو “آخر” للغرب.
وعندما ننظر في الخطاب الإسلامي المعاصر، من هذا المنظور، نجده يتبنى هذا المفهوم الغربي لـ الإسلام”، وذلك حين يتحدث عن “الإسلام” كطرف يصارع “الغرب”. فالمقصود هنا ليس الإسلام كدين فحسب، بل “الإسلام” كدين والإسلام كأمة وشعوب والإسلام كحضارة وقيم. وهذا المفهوم المتعدد الأبعاد للفظ “إسلام” لا أصل له في التراث الإسلامي. فـ”الإسلام” في نصوص تراثنا مصدر “أسلم”، ومعناه اللغوي هو الانقياد، أما معناه الشرعي فهو “إظهار الخضوع والالتزام بما أتـى به النبي محمد” (ص). وقد يتسع معناه ليدل على دين التوحيد، دين إبراهيم. وبهذا المعنى جاء في القرآن: “إن الدين عند الله الإسلام”، أي الدين الحنيف، دين إبراهيم.
وإذن فعندما نتحدث، نحن المسلمين، عن “الإسلام” كطرف مقابل “الغرب”، وذلك في عبارة “الإسلام والغرب”، ونعني به المعاني التي تعطيها له المرجعية الأوربية، فنحن في الواقع نتحدث لغة أقحمت في لغتنا، وهذا النوع من الاستعمال لـ”لغة أحدثت في لغة مقررة بين أهلها” –حسب عبارة أبي سعيد السيرافي- جار عندنا بكثرة في الخطاب العربي المعاصر. من ذلك مثلا مفهوم “الأنا والآخر”. لقد أشرنا قبل إلى أن التقابل الذي يقيمه الفكر الأوربي بين “الإسلام” و”الغرب” هو من نوع التقابل الذي تتحد به لديه العلاقة بين “الأنا” و”الآخر”. وهذه عبارة تستعمل اليوم بكثرة في خطابنا السياسي الثقافي الخ. وهي عبارة مترجمة أي أن دلالتها المعاصرة لا أصل لها في التراث العربي الإسلامي. هي لا تحمل من المعاني والدلالات في اللغة العربية ما تحمله في الخطاب الأوربي في الذي منه اقتبسناها. ولذاك وجب شرحها.
لنبدأ بملاحظة لغوية فنقول: إن عبارة “الأنا والآخر”، تنطوي على خطأ نحوي لغوي (في اللغة العربية). ذلك أن كلمة “أنا” ضمير منفصل وهو معرفة، والمعرفة لا تدخل عليها “ال”، فهذه تدخل فقط على النكرة لتصيِّرها معرفة مثل باب، الباب. أما كلمة “أنا” فلا تحتاج إلى لفظ يحولها إلى معرفة، فهي معرفة أصالة! وهل هناك ما هو أعرف لدى الإنسان من نفسه التي يعبر عنها بكلمة “أنا”؟
أما كلمة “آخر” فإنها وإن كانت تدخل عليها “ال” التعريف فهي في أصل معناها صيغة “أفعل” (أأخر) من التأخر، أي المجيء بعد… فهي لا تفيد الضدية وإنما تقال “لأحد الشيئين” (هذا باب، وهذا باب آخر)، وفيها معنى الصفة والنعت كما في مرادفها “غير”. وكلمة “غير” نفسها من الألفاظ الموغلة في الإبهام لأن معناها لا يتضح إلا بما تضاف إليه، وهي لا تستفيد التعريف من المضاف إليه إلا عندما تقع بين ضدين مَعْرِفتين مثل قولنا: “رأيت العلم غير الجهل”. أما في الأحوال الأخرى فتبقى نكرة مبهمة، في معنى الصفة و البدل مثل قولك: “رأيت سيارة غير سيارتك”. فكل سيارة أخرى هي غيرها. وقد تستعمل لإفادة الكثرة مثل قولك: “قرأت هذا الكتاب غير ما مرة”، أي أكثر من مرة واحدة. وفي جميع الأحوال تفيد ما يعبر عنه بـ “الغيرية” (مصدر صناعي من كلمة غير) بمعنى مطلق الاختلاف، ولا تفيد الضدية بالضرورة، فتقول: “القمح غير الشعير”، لمجرد المغايرة، كما تقول: “البياض غير السواد” للضدية.
والفرق بين لفظ “آخر” ولفظ “غير” عند اللغويين العرب أن الأول منهما يفيد استثناء الشيء من جنس ما تقدمه كقولك “رأيت رجلا وآخر معه”، فـ “آخر” هنا من جنس ما تقدم (=الرجل) ولا يمكن أن يكون امرأة أو صبيا أو حيوانا الخ… وذلك على العكس من كلمة “غير” التي تفيد مطلق المغايرة فتقول “رأيت رجلا وغيره”، وهذا “الغير” قد يكون رجلا مثله وقد يكون صبيا أو امرأة أو كائنا آخر.
لفظ “آخر” ولفظ “غير” في العربية يدلان على الاختلاف. والاختلاف في الفكر العربي الإسلامي أنواع ودرجات: فعلماء البيان العربي يميزون مثلا بين الاختلاف والتفاوت بكون الاختلاف يقال على أشياء بينها نظام يجمعها، بينما التفاوت يقال حتى على ما لا نظام فيه… والاختلاف قد يكون في المذاهب وقد يكون في الأجناس: فـ “الاختلاف في المذاهب هو ذهاب أحد الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، والاختلاف في الأجناس امتناع أحد الشيئين من أن يسد مسد الآخر. وقد يقع الاختلاف بين طرفين وهما معا يختلفان عن طرف ثالث كاختلاف اليهود والنصارى في المسيح، فهم جميعا على خطأ بالنسبة لما يقرره القرآن.
والفرق بين الاختلاف والتضاد أن المختلفين لا يسد أحدهما مسد الآخر في الصفة التي يقتضيها جنسه كالسواد والحموضة (إذ لا يمكن أن نضع “الحموضة” مكان البياض كمقابل للسواد)، أما المتضادان فخاصيتهما أن أحدهما ينتفي عند وجود صاحبه إذا كان وجود هذا على الوجه الذي يوجد عليه ذلك، كالسواد والبياض. فكل متضاد مختلف وليس كل مختلف متضاد.
الاختلاف، التغاير، التفاوت، التضاد، التنافي… تلك هي درجات “الغيرية” في الحقل البياني العربي كما يحددها البيانيون، وذلك في مقابل درجات “المثلية” التي يجعلهونها تمتد من مطلق “الشبه” إلى الشبيه والمثل والند والمُشاكِل والنظير والمتفق والعديل والمساوي والمماثل… ومن الصحيح تماما القول : إن درجات “الغيرية” مثلها مثل درجات “المثلية”، هي عبارة عن “الشبكة” التي يرى العقل العربي البياني من خلالها وبواسطتها علاقات التشابه والاختلاف التي تبلغ ذروتها في التماثل من جهة والتنافي من جهة أخرى.
وما يثير الانتباه في هذه الشبكة هو غياب “الذات” أو “الأنا” كطرف. ذلك أن الأمر يتعلق في هذه الشبكة بعلاقات بين أشياء العالم كما تراها الذات. فالذات مجرد ملاحظ وليست طرفا في هذه العلاقة: فالاختلاف ليس بين الذات وبين الأشياء بل بين الأشياء بعضها مع بعض. ومن هنا لم يكن ينظر إلى الذات في التراث العربي على أنها إنما “تتعرف على نفسها من خلال الآخر”، كما في الفكر الأوربي، بل ينظر إليها على أنها قائمة بنفسها وتتعرف على الأشياء من خلال مقارنة بعضها ببعض. وبعبارة أخرى إن ما كان يشغل الحقل البياني العربي ليس مسألة “الذات” و”الموضوع”، أو الذات والعالم، أو “الأنا والآخر”، بل إن ما شغل علماء الإسلام حقبة طويلة هو مسألة “الذات والصفات”: هل صفات الإله زائدة على ذاته كما هو الحال في الإنسان، أم أنها هي عين الذات… وتلك مسألة أخرى ليس هاهنا مجال الخوض فيها.
مما تقدم نستطيع أن نقول: إن عبارة “الإسلام والغرب” لا تفيد في الحقل البياني العربي شيئا آخر غير ما تفيده عبارة: “المسلمون والنصارى” أو “المسلمون واليهود” أو “النصارى واليهود” أو “الإيمان والكفر” أو “القوي والضعيف” أو “الرجل والمرأة” الخ… هكذا يرى العربي المسلم العلاقة بين “الإسلام والغرب” ابتداء: يراها كعلاقة (تشابه أو اختلاف) بين شيئين من أشياء العالم وليس كعلاقة بين “الأنا” الإسلام و”الآخر” الغرب. وأكثر من ذلك تفرض الرؤية البيانية على المنتمي إليها أن يتعامل مع الإسلام -في عبارة “الإسلام والغرب”- كموضوع يقع خارجه، في الزمان والمكان، إنه لا يتعامل معه هنا كجزء من ذاته ولا كذاته حتى في أوج دفاعه عنه. ذلك أن “الإسلام” بالنسبة له ليس ذاتا ولا جزءا في الذات بل هو صفة زائدة على الذات مثلها مثل جميع الصفات: الإسلام معناه تحلى الذات بصفة الانقياد …
ولعله من المفيد أن يستحضر المرء هنا الفرق بين تعبير “الدخول في الإسلام” ومقابله في الفرنسية (واللغات الأوربية). فاللفظ المستعمل فيها ليس مجرد “الدخول في المسيحية” بل “التحول” من عقيدة (خاطئة) se convertir. أما من الناحية العملية فيتطلب الأمر ليس مجرد “الشهادة”، أي الاعتراف باللسان وإظهار الانقياد كما في الإسلام، بل يتطلب “التعميد” وهو قداس (أحد الأسرار) يتم به تحول الشخص من حالة الخطيئة الأصلية إلى حالة الغفران. بعبارة أخرى: “الدخول في الإسلام” يُكسب المَعْنِيَّ بالأمر صفة “مسلم”، وهي صفة تنتمي إلى ظاهر الأشياء، يكفي فيها “الإظهار”، بينما “التحول” إلى المسيحية يتطلب حصول تغيير ماهوي. ومن هنا كان “التغاير” في الحقل الثقافي الأوربي يتم على صعيد الماهية بينما يتم في الحقل الثقافي العربي الإسلامي على صعيد الصفات.