عبد الله العروي … إكليل الصناعة الثقيلة في الفكر المغربي
عبد الله العروي من مواليد مدينة أزمور، سنة 1933م، تلقى تعليمه الثانوي بثانوية مولاي يوسف بالرباط و تعليمه العالي بجامعة السوربون، حصل على شهادةالعلوم السياسية بمعهد الدراسات السياسية بباريس سنة 1956م و على شهادة الدراسات العليا في التاريخ سنة 1958م ثم شهادة التبريز في الإسلاميات سنة 1963م. و في سنة 1976م سيحصل على دكتوراه الدولة في موضوع الأصول الاجتماعية و الثقافية للوطنية المغربية: 1830م – 1912م. و رغم كل هذا سترفضه الجامعة المغربية في البداية، ليلتحق بها مدرسا لعلم التاريخ فيما بعد و يقضي بها حياته العلمية. غير العروي المواقع كثيرا لكنه لم يغير المواقف. انخرط في المجال السياسي الحزبي (الاتحاد الاشتراكي) مثل جيله، و غادره نحو مناصب سياسية سامية. رافق الملك الحالي حينما كان أميرا، و كأنه يجرب إمكانية الجرس الميكيافللي في المغرب. و رحل إلى بلدان أوربية كوسيط فاعل أكثر من أجهزة وزارة الخارجية الرسمية، ليركن أخيرا في محرابه الجامعي و الفكري.
سنة 1967م ستكون فارقة في مسار عبد الله العروي. إنها نكبة العرب و صدور كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة في طبعتها الفرنسية و بتقديم لماكسيم رودنسون. إنه مبتدأ الصناعة الفكرية الثقيلة في حقل الفكر العربي عامة. و الذي سيليه مؤلف العرب و الفكر التاريخي فأزمة المثقفين العرب. مؤلفات ثلاثة سترمي و لأول مرة بشكل عميق بالفكر العربي في مسارات غير متوقعة و جريئة. إعادة قراءة للفكر الغربي و لمفكري النهضة العربية و السلفية المغربية. و قلب لإشكالاتها. من الماركسية الموضوعية إلى الماركسية التاريخية، و من النبش في التراث و البحث فيه عما يلائم العصر إلى ضرورة القطع معه من حيث هو أساليب و مناهج للبحث الفكري. و من التقليد إلى اختيار الحداثة، و من التردد بين الأصيل و المعاصر إلى اختيار الانخراط في منطق أوروبا الغربية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر. ومن تجزيء اختيار الدولة الحديثة إلى ضرورة اختيارها في كليتها و بكل مستلزماتها العقلانية و الديمقراطية و المؤسساتية و الفكرية.
سيصدر عبد الله العروي أطروحته حول الأصول الاجتماعية و الثقافية للوطنية المغربية، و التي لا يمكن لأي باحث أن يتغافلها. و بما أن سوسيولوجيا المجتمع المغربي محكوم عليها بأن تكون سوسيولوجيا تاريخية، فإن العبور عبر المؤرخ لا يمكن تلافيه. (محمد قبلي في الوسيط و عبد الله العروي في القرن التاسع عشر). بين المؤرخ المحلل للمعطيات و الوقائع و المواقف و المفكر المؤسس و الفاحص للمفاهيم (الإيديولوجيا، الحرية، الدولة، العقل) و المثقف الفاعل و المتدخل في قضايا الأدب و الاجتماع و السياسة و الفكر… ظل العروي و ما زال صاحب نفس الاختيار الفلسفي (الحداثة بدل التقليد) و النظري (التاريخانية بوصفها: ثبوتا في قوانين التطور التاريخي و وحدة في اتجاهه من الماضي نحو المستقبل و إمكانية لاقتباس ثقافة و فكر الآخر بحكم وحدة الجنس البشري و فعالية المثقف و السياسي في إمكان إنجاز الطفرة و اقتصاد الزمن) و المنهجي (العقلانية العلمية المعتمدة على التجربة و الاستقراء) و الفكري (تعرية عوائق التحديث المجتمعي و السياسي).
اختيار الحداثة من طرف العروي لا تجزيء فيه و لا تعايش بين ما ينتمي إلى أسسها الفلسفية و القيمية و ما ينتمي ما يغايرها. إنها تشبع بمقولات الفكر الغربي الحديث الأساسية: عقلانية و تقدم و نقد و مسؤولية الإنسان عن نفسه. و تعرية في الآن نفسه لكل ما يعيق إنجازها. تعرية و نقد للأطروحة التي تعتبر أن الحداثة متجاوزة بحكم أن الغرب ذاته قفز إلى ما بعدها. يقول العروي: “المجتمعات العربية لا يمكنها القفز فوق مرحلة الحداثة. إنها قدر لا فكاك منه. و هي تفنيد للظن الذي يحسب أن التطبيق الشكلي و الانتقائي للأسس السياسية و القيمية للحداثة كاف للعبور إلى عوالمها”. إنه الخطأ الأكبر، حسب العروي، فالتحول إلى الحداثة يتطلب حضورها في العمق، أي على مستوى تفكير المجتمع و الدولة. مجتمع يبتعد في تعليمه و قيمه و سلوكاته عن المعتقدات الغيبية و التقليدية، و يقطع من منح الأولوية للاسم على الفعل لغة و سلوكا. مجتمع يرفع كل ما يعيق تحرير الفرد من مختلف التبعيات السياسية و الاجتماعية و العشائرية و الفكرية، و كل ما يعيق حرياته المدنية و السياسية في الواقع، و ما يحول بينه و بين التفكير الحر و العقلاني العلمي. ثم دولة حديثة، لا مجال فيها لتحقيق تحولات جزيئية (ديمقراطية، ليبرالية، مدني…) إلا بعد إقامتها و إرسائها كدولة حديثة. اختيار الحداثة و القطع مع التقليد هو اختيار الطريق الذي ليس من دونه بد: الطريق الذي سارت فيه المجتمعات الإنسانية. سيتعرض هذا الاختيار، حسب العروي، لمقاومات كثيرة، لكن من دونه سنظل نقول كل شيء إلا ما يهم حاضرنا و مستقبلنا.
* نور الدين الزاهي، عن أخبار اليوم سنة 2010.