علال الفاسي : تاريخ المغرب – ج2
وعند الفتح الإسلامي كانت الخريطة النقديّة تصوّر ثلاث مراكز تتعارض بعدم تساويها في مقادير الذّهب ومادّة الضّرب الّتي تستعملها.
إنّها الإمبراطوريّة البيزنطيّة، والغرب البربار والشّرقي السّاساني.
وقد بيّن كاتب هذا الفصل، أنّ الذّهب كان يُخزّن في كنائس الرّهبان في بيزنطة بينما كان السّاسانيّون يشتفون الذّهب ويدّخرونه ويطبعون نمياتيهم بالفضّة، في الوقت الّذي كان يفقد الغرب البربار ما يحصل عليه من الذهب في شراء البضائع الشّرقيّة. فلمّا فتح المسلمون هذه الأراضي أخرجوا ذهبها للنّاس وضربوا النّقود الذّهبيّة فازدهرت التّجارة ما بين الغرب وبين الخطّ الإسلامي. وينبغي أن ننبّه إلى أنّ هذه السّياسة الّتي اتّبعها الخلفاء الفاتحون في ترويج الذّهب وإخراج ما عند الرّهبان في الكنائس والسّاسانيّين في الخزائن إنّما هو تنفيذ لمبدأ الاقتصاد الإسلامي الّذي يحرم الكنز ويوجب ترويج النّقد وعدم تجميد الثّروات. وإلى هذا الواقع يُشير القرآن الكريم إذا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}. وهو ما يُؤكّد رأي في أنّ النّفقة المطلوبة ليست هي الزّكاة أو الصّدقة لكلّ ما عند الإنسان، وإنّما هي إخراج النّقود وعدم اختزانها ترويجًا لها سواء في الزّكاة أو الصّدقة أو في أعمال اقتصاديّة وتمويل منشآت، إلخ…
إنّ ما فعله الخلفاء يُبيّن حقيقة النّظام الاقتصادي الإسلامي وهو في مبادئ أخرى يكون علم الاقتصاد والماليّة ضمن الفقه الإسلامي لمن شاء أن يتعلّم.
ومنذ انتظمت الحماية البربريّة والقمح موجود كما يقول (جسيل) (ص 46). أمّا ادّعاء انتشار المسيحيّة في أوساط مغربيّة كثيرة فيجادل فيها الأستاذ العروي بعبقريّة وإتقان (ص 50). المسيحيّون في الغالب روميون لا بربر، وفي المدن لا في البادية، وأغنياء لا فقراء، وإن كان من الممكن أن يكون البؤس جرّ بعض فقراء البربر أن يتنصّروا رجاء تحسين أحوالهم أو لتسويغ فقرهم. وكان بعض البربر مخلصين في الدّوناتيه ضدّ مسيحيّة روما. أمّا غالب البربر فانضموا للدّوناتيه حلفاء ظروف اقتضتها الثّورة على المستعمر.
الّذي يهمّنا هو أنّ كلّ كاتب من الأجانب ينظر إلى الأحداث الواقعة في المغرب الرّوماني بمنظر الحزب الّذي ينتمي إليه. وليس فيهم من يقول إنّ في ما يجري من معارضة دليلًا على وعي بوجدان وطني أو اجتماعي عند البربر (ص 57 انظر الفقرة 2): ‹‹باعتبار النّظريّة التّحرريّة فشلت روما بسبب تناقض سياستها، وليس لردّ الفعل البربري وكان ممكنًا للكنيسة أن تختار أحد الطّرق، لو فعلت لخلصت المسيحيّة والرّومنة معًا. كان يُمكن أن تمثّل في الماضي الدّور الّذي تحاول تمثيله الديموقراطيّة الاجتماعيّة ومهما تكن الحقيقة الّتي يكشف عنها لهذا الأفق، ومهما كانت صفته المعادية للاستعمار إلى حدٍّ ما، فقد بقي نظرة سلبيّة لما سبق. لم يمثّل المغربي أيّ دور إيجابي. وسواء نظر إليه كخطر من وراء الليم، أو ضحيّة من أسفله فهو دائمًا مأخوذ من الخلف، كلّ الآفاق استعماريّة سلبيًّا وإيجابيًّا، والأيدولوجيّة الوطنيّة لم تخترع شيئًا في هذه الخطّة، ولعلّها ترد للماضي وزنه وكونه الخاصين؟ إنّها مسألة في غير محلّها، على ما يظهر، إذن يلزم الاعتراف بذلك وانتقاد كل ما يحرف الماضي بواسطة الحاضر››.
ويعود العروي لينتقد على المغاربة المعاصرين عدم اهتمامهم بهذه الحقبة من التاريخ وهو محقّ في ذلك؛ ولكنّه غير محقّ حين ينتقد دفاعهم عن قرطاجة. إنّهم لا يُريدون بذلك إثبات الأصل الشّرقي للمغرب كما يظنّ؛ ولكنّهم يثبتون حقيقة مغربيّة هي أنّ قرطاجة آوت الفينيقيّين لا كفاتحين ولكن كمهاجرين. وفي ما يخصّني فإنّ الشّيء الّذي أريد إثباته والواقع يُؤكّده هو أن الاتصال كان دائمًا بين هذا الخطّ الجغرافي الّذي يربط بين المحيط والفرات ولم يصبح المغرب الّذي في الطرف الغربي لهذا الخط جزءًا من الأرض العربيّة إلّا بعد أن أصبح الخطّ كلّه عربيًّا ومسلمًا. أمّا أن يكون الأصل المغربي فينيقيًّا فهذا شيء لا أدّعيه، إنّما ثمّ ما يُسمّيه العروي في أماكن كثيرة ولا سيما في الخاتمة وحدة ثقافيّة وعاطفيّة انصهرت في قرطاجة بين الأهالي وضيوفهم الذين أصبحوا هم أيضًا مغاربة ممتزجين بالبربر، دليلها الأكبر في نفس المواطنين ردود الفعل الواحدة ضدًّا على الرّوم وغيرهم من الفاتحين.
الدّفاع عن قرطاجة في ما نرى جزء من مغربيّتنا، لا لإثبات أن أصلنا من الشّرق أو من الغرب، بل لأنّنا أبناء وطن اتّحدت عناصره مختلفة الأصل.
هل أراد (يوجورتا) أن يحتلّ قرطاج أو يخرج الرّومان؟ (ص 62). حقيقة إنّ هذه قضيّة تحتاج لبحث كثير، والذي أفرضه أن (يوجورتا) كان يعمل لحساب روما ضدّ قرطاجة أي ضدًّا على المغاربة.
ص 68 في إطار المغرب المثلث يصبح للصّحراء مركز تاريخي. و من الغلط إغراق مسألة تمّت تاريخيًّا (2 إلى 7) في قضيّة أوسع منها والتي هي من اختصاص الجغرافية. ثلاث نقط يجب بحثها: أ- التّنظيم الاقتصادي والاجتماعي الّذي غلب في الصّحراء والمرموز له بقضيّة الجمل. ب- الشّعب المقيم في الصّحراء وأخيرًا دوره بالنّسبة للمغرب في مجموعه. يربط (جسيل) القضيّة بالضّغط الاستعماري الرّوماني وفرار السّكان للصّحراء الذين طردوا أمامهم السّود الأثيوبيّين وتقووا بمهاجرين آخرين مستعينين بالجمل الّذي ظهر في القرن الأوّل بعد المسيح. أمّا (كوتي) فجعل على حساب روما تعمير البلاد بالإنسان والحيوان، ومنها الجمل الذي كان سببا في خلق العرب الرحل، و ربط كورتوا النظريتين معا منكراً أن يكون الجمل قد غاب يومًا ما عن الصّحراء مُدّة العهد التّاريخي، كما أنكر أن يكون الجتول والأثيوبيّون قد افترقوا في وقتٍ ما. والشّيء الجديد عنده هو دخول لواتة الرّحل في طرابلس قادمين من النّيل الأعلى في القرن الثّالث وذلك بسبب التّهجير الّذي قرّره الإمبراطور (ديوكليزن). وهنا يعرض العروي لما وراء التّطوّر عند هؤلاء الباحثين من مغاز استعماريّة ويقول:
مسألة الصّحراء المغربيّة لا تتعلّق لا بالطّقس ولا بالحيوان وإنّما هي تاريخيّة. ففي الوقت الّذي أصبحت الصّحراء ملجأ للسّكان الأهالي الذين يعودون لأعرابيتهم وهم يُفكّرون في العودة في أقرب وقت للشّمال، أصبحت الصّحراء ذات صفة خاصّة. وذلك لم يقع إلّا في وقتٍ مُحدّد يبتدئ مع الاستغلال الرّوماني، وينتهي في الوقت الّذي غدت فيه الصّحراء مركز اتّصال بين إفريقيا السّوداء وبين المغرب. تلك التّنمية الّتي حصلت في الغالب في القرنين الثّامن والتّاسع، وليس أربعة قرون من قبل. الإمارات التّسع المغربيّة هل وحدت لغتها وثقافتها؟ هل تمّ تمسحها؟ المهم أنّ المسيحيّة في المغرب لم تكن قط على اتّصال بالكنيسة الرّوميّة، والكنيسة المحليّة اتّخذت تدريجيًّا شكل توحيد مهّد السّبيل للإسلام.
و حينما جاء عبد الله بن أبي سرح لفتح المغرب لم يعد كما يظنّ المؤلّف مكتفيًا بما حصل عليه؛ ولكنّه طبّق أحكام القرآن {حتى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. لا ينبغي أن ننسى أثر التّعاليم القرآنية على أولئك الفاتحين الذين يرون في الإلحاح في قتال قوم آمنوا أو رضوا بالتّعاهد معنا ظلمًا لا يُمكن ارتكابه.
إنّ التّوضيحات الّتي أعطاها الأستاذ العروي عن بداية الفتح الإسلامي قيّمة وإيجابيّة والرّدة الّتي زعم أبو زيد القيرواني أنّها وقعت ستّ عشرة مرّة من البربر لم تكن ردّة في الدّين وإنّما كانت ثورة على مُخالفات أو سوء مُعاملة من بعض الضّباط العرب. والمُلاحظة العظيمة الّتي انتبه إليها العروي لأوّل مرّة، هي أنّه لم يكن ثمّة أي اضطراب أو ثورة دفاعًا عن المسيحيّة ضدّ الإسلام، الأمر الّذي بيّن أن ما يتحدّث عنه من انتشار للمسيحيّة في الأوساط البربريّة مبالغ فيه على الأقل.
قد حدثت انقلابات مستمرّة على أثر النّزعات الّتي ظهرت في الشّرق بعد اختلاف الصّحابة وكان للتمرّد الخارجي (الصفري والأباضي) أثر في تثبيت ذاتية المغرب ومساعدة هذه الذّاتية على إسلام البربر. وتتم هذه المُلاحظة بالإشارة إلى أنّ خوارج المغرب لم يقبلوا التطرّف الأزرقي، وهي ظاهرة مهمّة تبيّن الرّغبة في حكم ديموقراطي مُتسامح مع المحالفين مع أهل الإسلام.
وسأل الأستاذ العروي هل أراد المغرب أن يكون مغربيًّا؟
لقد وجد المغاربة في الإسلام المحرّر وباعث الأمل والمؤمن للنّفس (ص 120 وما بعدها) وخلط المستعمرون في تفسير القرن 9. الأهم ثُنائيّة القرن 9، التّجارة والفلاحة لا الرّعاية كما ظنّ (جوتيي)، من ثمّ نرى خطأ المستعمرين حينما يسقطون إشعاع ماض بعيد على حاضر جديد.
ثلاثية المغرب استمرّت في القرن 9 ولكن في جو آخر. في إفريقيا الأغلبيّة تأسّست دولة على صورة الدّولة الإسلاميّة المركزيّة الّتي أصبحت بدورها نموذجيّة. وهذه الدّولة عربيّة بربريّة (شكل عربي وإس بربري) وقد تعمّم هذا التّطوّر من بعده؛ ولكن كخطوة أولى لأنّه كثيرًا ما يغيب الإطار العربي حين يسلم البربر. مصاحبة الماضي واضحة، ولكن يمكن القول بأنّ الأغالبة نجحوا حيث فشل الونداليون لأنّهم ساروا كورثة لروما، ولم يريدوا أن يعملوا لصالح الخطّة البربريّة. استقلّوا وأبوا أن يُهيّئوا استقلال الأفارقة. وسواء أراد الأمراء الأغالبة أو لم يريدوا فإن منطق العقيدة الإسلاميّة، الّتي لا يُمكن إجهاضها تمامًا، وحّد المُجتمع الأفريقي، وجاء اعتناق المذهب المالكي ليعمل في تدرّج على تحقيق ذاتية ووحدة سائر الشّمال الأفريقي المعنوية. أمّا المغرب الأوسط فمن جهته كان دائمًا مقرّ المدنيّة –الدّولة- ولكنّه امتدّ نحو الشّمال حتّى المتوسّط، ومن الجنوب إلى واحة درا، ويُمكن القول بأنّه كثيرًا ما نُلاحظ تجدّد إمارات من القرن 3-7 الّتي كانت قد تفكّكت أحيانًا بسبب حروب التّسلّط. و بهذا الاعتبار فإنّ نموًّا هائلًا تجاريًّا ومعدنيًّا وفكريًّا قد توالى. وذلك ما يكذب بصفة قاطعة نظريّة (ش. كورتوا) القائلة: لا حضارة خارج المحور الرّوماني. وأيضًا فإنّ المغرب الصّحراوي امتدّ بصفة عظيمة إلى قلب الصّحراء الحالية، وأصبح على الخصوص مغرب التّجارة يُراقبه من نقطتي الذّهاب والإياب فبائل زناتة وصنهاجة الملثمة. وذلك هو الإبان الحقيقي لفتح الصّحراء. وطبعًا فقد أصبح سكّان هذه الأماكن ينظمون القوافل التّجاريّة بجمالها، نشأ عنه بنيان اجتماعي خاص (قد لا يكون دولة) وظاهرته البيّنة والمُحدّدة التّجارة. لا إنّ هذا البنيان هو العامل المُحدّد، وهكذا نرى كيف يُمكن أن يُغيّر بسهولة معنى تسلسل كامل حين نقابل زنانة (المغرب الأوسط) بصنهاجة (الجبليّين والقبليّين ورحّل الصّحراء) ومصمودة السّهل الأطلسي. و قد تظهر هذه التّسمية مجرّد تغيير في التّناول، والواقع أنّها إنكار لمعنى التّسلسل التّاريخي، حتّى ولو صدرت من إمام كابن خلدون.
الجديد بالنسبة للقرنين الخامس والسّادس هو تأكيد ذاتية الصّحراء وفتحها والتّناقض الّذي صنعه العهد الرّوماني وزاد في استفحاله الونداليون والبيزنطيون حلّ من عدّة نواح، وهذا الحلّ وقع تحت شعار الإسلام. وهذا بغير شكّ سرّ إسلام الأفارقة في بطء؛ ولكن بصفة نهائيّة.
مهما تكن آثار عامل التّجارة وطريق في تجنيد القبائل ضدّ بعضها فإنّ أسباب الحرب الأولى عقائديّة، خارجيّة، سنيّة، شيعيّة.
وهذه الفكرة يُؤكّدها المؤلّف مرارًا، انظر ص 127-128 وانظر ص 130 تعليق ص127. اعتبر مع (كوتي) أنّ مُغامرة الفاطميّين انتقام بربري من الشّرق العربي معناه اتّباع حكم مبتسر لا يُمثّل أي نوع من أنواع الإفادة.
وفي ما يخصّ مجيء إدريس للمغرب (من موقعة فخّ أو قبل ذلك ببعث من قبل أخيه محمّد بن عبد الله الكامل حسبما رواه الأشعري في تاريخ الشّيعة) كان حاسمًا في القضاء على برغواطة، وفي الاهتمام بإسلام البربر وتعليمهم.
وبفتح تلمسان وأخذ شاله ومدينة نفيس في الجنوب وبناء فاس من بعد كعاصمة وقع فتح الطّريق التّجاري الّذي أعاد الاتّصال بمراكز الذّهب الإفريقيّة.
وفي ما يخصّ البحث عن مولاي إدريس هل كان شيعيًّا أو زيديًّا أو معتزليًّا قبل مجيئه للمغرب. الّذي يظهر لي وجوب استبعاد الشّيعيّة والاعتزال، بل إنّ مجيء شريف من ذريّة الحسن لا الحسين حمى المغرب من التشيع. ومن المعلوم أنّ جلّ شرفا المغرب من أولاد الحسن بن علي إلّا ثلاثة هم الصّقليّون والمسفريّون والعراقيّون فإنّهم حسينيّون. أمّا المذهب الزّيدي فهو أقرب للادّعاء لما له من الصّلة بزيد بن علي وبجعفر الصّادق رضوان الله عليهم. و مع ذلك فإنّ المولى إدريس اهتمّ في المغرب بتعليم الدّين وإدخال البربر فيه ولم ينقل عنه تحيّز لمذهب ما. وقد تغلّب المذهب المالكي من بعد في المغرب لنضاليّته ضدّ الشّيعة والخوارج، في أسباب لا مجال لعرضها. كما أنّ التّشيّع قضى على الخارجة وحمل العلماء على تقبّل المذهب المالكي الّذي لم يكن صاحبه حاز النّصرة للعبّاسيّين.
ماذا يقول المؤرّخون الإفرنج عن القرن التّاسع عظيم الأهميّة بالنّسبة للمغرب (ص 12). لقد ناقش المؤلّف هنا (تيراس) و (كوتي) وغيرهما بروح علميّة نهنئ الأستاذ العروي عليها.
لا نعتقد مع المؤلّف أنّ مراكز المحور الذّهبي انقرضت كما يقول في ص 122 وأدّى ذلك إلى جعل الصّحراء مساكن رحل، إذ يمكن ادّعاء أنّها انتقلت ليد المرابطين الذين ملكوا تلمسان وتيهرت وسجلماسة، بعد أن كانت تحوّلت على أدرار وموريطانيا حسبما ظنّ المؤلّف ص 149.
أمّا الهلاليّون فقد أثّر دخولهم للمغرب في إضعاف تلك المراكز الذّهبيّة الّتي تحوّلت من بعد لفائدة التّرك والصّليبيّين من بعد.
و في قضيّة الهلاليّين والأعراب وتفسيرات ابن خلدون مجال لبحث كبير أظنّ أنّه لم يأخذ نصيبه من الكتاب.
إنّنا لا نعتقد أنّ الهلاليّين فعلوا أكثر ممّا يفعله جيش غير عادي. وليس من الحقّ أن نعتبر مقامهم في مراكز وجودهم التّاريخي أكثر من مقام قبائل الجيش أو الكومي الفلاح. ومن الصّعب ادّعاء أنّهم أحدثوا فيودالية خاصّة. وحكم ابن خلدون عليهم هو حكم على العصبيّات الّتي لاحظها في عهده. وهي كما يُبيّن (إيف لاكوست) بحقّ نتيجة اكتفاء الملوك والحكّام في المغرب بالذّهب الّذي تحمله إليهم طرقه الّتي تحت يدهم. و لذلك لم يفكّروا في انتزاع الأرض من يد أصحابها ولم تكن عندهم أداة الإنتاج الآسيوي الّذي لمح إليه ماركس. فالقضيّة إذن قضيّة دعوة من ابن خلدون للتّحرّر من طرق اقتصاديّة بدائيّة كما قال عيّاش وإنذار من ابن خلدون للمغاربة من الوقوع في التّخلّف الّذي جرّ إليه امتداد ذلك العهد رغم ما فعله المرينيون من بعدهم ورغمًا عن محاولة السّعديّين تحويل العصبيّة للزّوايا والعلويّين للاستغناء بجيش العبيد عن القبائل المسلّحة.
ومن هذا يجب نبذ كلّ مُحاولة لتفسير كلمة الإقطاع الإسلاميّة بالمعنى الفيودالي. فتلك غلطة لغويّة وقع فيها الأب بلو في قاموسه وأصبحت مُقدّسة. وقد أوضحتُ في بحثٍ نشرتهُ في عدد من مجلّة لسان المغرب ذلك كلّ الإيضاح. لقد خالف المؤلّف في ما يظهر نفسه حين شايع هذا الغلط ص 140 و ص 195 مع أنّه قال في حاشية ص 354: ليست لنا فيودالية حقيقيّة ولا تسلّط بورجوازي يوحد الشّعب ثقافيًّا ولا ملكية مطلقة بمعنى الكلمة، لا ينبغي أن نندم على ذلك ولا أن نسر به، وعلى الوطنيّة المغربيّة أن تُهيئ المغرب لما لم يكن مُهيّئًا له إلّا هامشيًّا أي للتّجديد العصري، ولوحدة ثقافيّة وتسييس الجماعات المحليّة وإقرار مشروعيّة الدّولة.
وحسنًا فعل المؤلّف حين ردّ على (تيراس) و (جوليان) في اعتماد السّلالة في الحكم على الأشياء. ص 163.
إقرأ أيضا: