الغرافي يناقش العلاقة الإشكالية بين البلاغة والعقيدة في إصدار جديد
صدر للباحث المغربي الدكتور مصطفى الغرافي عن دار “كنوز المعرفة” بالأردن حديثا كتاب جديد بعنوان “البلاغة والإيديولوجيا، دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة”. يقع الكتاب في حوالي 550 صفحة ويتناول بالفحص والتحليل العلاقة الإشكالية بين البلاغة والإيديولوجيا من خلال متن تمثيلي تجسد في تراث ابن قتيبة النثري. وقد انطلق الدارس في بناء أطروحة البحث من سؤالين مركزيين: كيف تذعن البلاغة النثرية لمقتضيات العقيدة؟ وماهي مظاهر هذا الإذعان؟ وقد شكّل هذان السؤالان قادحاً لبحث الخصوصية البلاغية في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة، التي تمثل استراتيجية خطابية لا تنفصل عن النسق الفكري والأيديولوجي الذي صيغت في ضوئه. وقد أرجع الباحث اختياره لبحث موضوع “البلاغة والإيديولوجيا، دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة” إلى ندرة إن لم نقل انعدام الدراسات المخصصة لفحص هذا الجانب من تراثه الغني والمتشعب. فإذا كانت الدراسات العامة التي عنيت ببحث إنجازات ابن قتيبة الناقد الأدبي والمفكر الاسلامي وافرة، فإنه لم توجد دراسة اختصت بفحص تراثه النثري من زاوية بلاغية كما أشار الباحث في مقدمة الكتاب. وهو ما جعل دراسة أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة أمرا سائغا بل مطلوبا.
قسم الباحث كتابه إلى قسمين كبيرين؛ خصص القسم الأول الموسوم بـ “البلاغة والإيديولوجيا” للنظر في طبيعة العلاقة بين البلاغة والإيديولوجيا من أجل إبراز دور العامل العقدي في توجيه بلاغة أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة. ومن أجل تحقيق هذه الغاية توزع القسم الأول إلى فصول ثلاثة؛ الفصل الأول “البلاغة وسياق المؤلف” حاول إبراز مدى ارتباط البلاغة بالخلفية الفكرية والعقدية التي صدر عنها المؤلف من خلال تتبع تربية ابن قتيبة الذهنية باعتبارها سياقا فكريا يساعد على فهم بلاغته النثرية. الفصل الثاني “المشروع الثقافي” وشكل محطة أخرى للوقوف على الملامح العامة التي ميزت مشروع ابن قتيبة الثقافي. وذلك ببحث طبيعته وتعيين مقاصده وإبراز أثر الإيديولوجيا في توجيهه. أما الفصل الثالث فقد توقف الباحث فيه عند “التعارضات البلاغية” التي تتبع خلالها مظاهر السطوة التي فرضتها المقصدية الفكرية والعقدية على مباحث البلاغة كما تجسدت في مدونة سنية تمثلت في تراث ابن قتيبة وأخرى اعتزالية تجلت في تراث الجاحظ.
وإذا كان القسم الأول قد شكل إطارا عاما حاول الباحث أن يثبت فيه أن أفكار ومواقف ابن قتيبة مرتهنة أصلا وفصلا إلى مقررات الفكر السني، فقد تم تخصيص القسم الثاني لـ “بلاغة الأنواع النثرية” لإبراز أثر هذا الفكر في نثر ابن قتيبة في سعي لضبط مناحي التفاعل والجدل بين المقصدية الإيديولوجية من جهة (القسم الأول) وتجليات البلاغة النثرية من جهة ثانية (القسم الثاني).
اهتم الفصل الأول بفحص المكونات البلاغية التي جعلت من كتاب “عيون الأخبار” نصا موسوعيا تقوم بلاغته على تعدد الأشكال والأنواع والصيغ والأنماط، حيث شكل مصب أنواع الخطاب المختلفة ونقطة تقاطعها. انصب الجهد في الفصل الثاني على دراسة المناظرة، كما تجسدت في نص “تأويل مختلف الحديث”، دراسة بلاغية مكنتنا من الكشف عن الاستراتيجيات التي انبنت عليها بلاغة الخطاب الإقناعي في هذا النص الذي خصصه المؤلف للدفاع عن أهل الحديث ضد خصومهم من المعتزلة وأصحاب الرأي. انشغل الفصل الثالث بالنظر إلى بلاغة الخطاب الخبري عند ابن قتيبة كما تجسد في نصوص حكائية تتصل بشكل مباشر بالسياق الثقافي والعقدي الذي نشأت فيه مما جعلها نصوصا دائرة في فلك التواصل البلاغي الوظيفي. عني الفصل الرابع بمحاولة استكناه ملامح التواصل البلاغي في تراجم ابن قتيبة من خلال تحديد أهم الأسس التي انبنت عليها بلاغة هذا النوع النثري. اتجه الفصل الخامس إلى إبراز أسس البلاغة الإقناعية في الخطبة بوصفها نوعا حجاجيا غرضه التأثير والإقناع. تناول الفصل السادس “مقامات الزهاد” بوصفها نوعا نثريا تفاعلت فيه زمرة من مكونات التبليغ الخطابي مكنت المؤلف من إرساء تواصل بلاغي فعال ومؤثر.
وقد ذكر الباحث أن قسمي البحث وفصوله شكلت بناء منهجيا متلاحما أتاح الاستدلال على فكرة أساس مثلت عصب الدراسة مؤداها أن بلاغة أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة خاضعة لموجهات السياق الفكري والعقدي الذي انبثقت عنه؛ فهي تسعى إلى توصيل رسائل المؤلف إلى متلقيه أكثر مما تسعى إلى خلق موضوع جمالي. ولذلك هيمنت فيها الوظيفة التداولية الإقناعية على الوظيفة الأدبية الجمالية.
نقرأ في الكلمة التي جاءت على ظهر الكتاب: “لقد سعينا في هذا البحث إلى الكشف عن مظاهر انسراب المواقف الفكرية والآراء المذهبية في ثنايا الرسالة البلاغية التي توخى ابن قتيبة توصيلها إلى مخاطبيه من خلال نصوصه النثرية. ومن هنا كان هذا البحث يمثل مسعى صاحبه إلى قراءة تراث ابن قتيبة النثري قراءة بلاغية نسقية بوصفه نصا واحدا جمعا، مترابط الأجزاء في مستوى القول والخطاب، موحد المرامي في مستوى الغايات والمقاصد. ذلك أن تدقيق النظر في نصوص ابن قتيبة النثرية يكشف عن كونها جارية إلى تحقيق غايات فكرية عقدية وأخرى خلقية اجتماعية. مما استلزم فحصها وتحليلها في ضوء المقصدية الإيديولوجية التي افترضنا توجيهها لبلاغة هذا النثر؛ فالنظر المتأمل يكشف أن الأفكار والآراء التي انطوت عليها النصوص النثرية دائرة في فلك العقيدة السنية، حيث تم إسقاط الغرض العقدي الديني على الغرض الأدبي الجمالي. وعلى هذا الأساس تكون دراسة نثر ابن قتيبة من منظور بلاغي استجابة للأفق الذي شكله هذا النثر نظرا لصدوره عن خلفية فكرية وعقدية تمثل آراء وتصورات الفكر السني. وهو ما يعني أن المؤلف كان يصوغ نصوصه النثرية، كما حاول البحث أن يثبت، في ضوء مقررات العقيدة السنية التي مثلت مضمرا حجاجيا وموجها إيديولوجيا انصاعت له بلاغة الخطاب النثري عند ابن قتيبة”.