محمد عابد الجابري: تجديد التفكير في مشروع متجدد – مقدمة
تمر السنوات والعالم العربي يواجه سلسلة من المشاكل “الظرفية” التي يمطره بها عالم العولمة الهيمنية: سلسلة لا تنتهي منها حلقة إلا لتحل محلها أخرى، صارفة العرب عن التصدي لمشاكلهم “الذاتية” التي تعترض نهضتهم والتي لم يفتأوا يرددون ما يطلقون عليها من أسماء، وما أكثرها، والمسمى واحد! يتعلق الأمر بما عبروا عنه منذ قرن ونصف بـ “النهضة”، هذا “الاسم الجامع” الذي يعني الإصلاح والتجديد والتحديث لكل مناحي الحياة العربية، الاجتماعية منها والسياسية والثقافية والدينية.
ومع أن المشاكل النهضوية التي تواجه العالم العربي قد بقيت منذ القرن التاسع عشر هي هي، في مضمونها العام، فإنها تكتسي في كل مرحلة أبعادا جديدة وصيغا متنوعة، الشيء الذي يستلزم تجديد التفكير فيها من وقت لآخر. وإذا كان صحيحا أن الأسئلة الكبرى التي طرحها رواد النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين تطرح اليوم نفسها بنفس الصيغ والمضامين–تقريبا- التي طرحت بها أول مرة، فصحيح أيضا أن التطورات التي عرفها الربع الأخير من القرن العشرين، في كافة الميادين، تفرض علينا اليوم إعادة طرحها وتجديد التفكير فيها بارتباط مع الأسئلة الجديدة التي يعج بها عالم العولمة الراهن.
تجديد التفكير في موضوع من الموضوعات معناه إعادة بناء تصورنا له على ضوء ما حصل من تطور، إنْ في هذه الموضوعات نفسها أو في رؤيتنا لها وطريقة تعاملنا معها. وهذا ما يعبر عنه بلفظ جديد على خطابنا ورؤيتنا، لفظ “التحيين” (من “الحين”)، ونعني به جعل المسألة في وضع مناسب للتطور الحاصل حين طرحها. وكان المتكلمون في الإسلام يعبرون عن ذات المعنى بـ”تجديد النظر”، وهو ما عبرنا عنه هنا بـ”تجديد التفكير”.
ولفظ “التحيين” اليوم -والبعض منا يستعمل “التحديث” ترجمة لـ update, actualiser, mise à jour;- أصبحت له دلالة خاصة في مختلف المجالات، وبكيفية خاصة في مجال المعلوميات: مجال المعرفة والإعلام الذي يتجدد باستمرار، في كل لحظة، تجددا يفرض على المتعامل معه القيام في كل وقت بـ”تحيين” أدوات العمل، من برامج وغيرها، حتى يستطيع مواكبة التطور الذي يحصل في موضوعاتها … لابد إذن من القيام بعملية “تحيين” لقضايا النهضة العربية على ضوء ما استجد في هذه القضايا وما جد من أدوات التفكير وطرق النظر.
***
[Tweet “إن “تدشين عصر تدوين جديد” مشروع متجدد يطرح نفسه علينا في كل وقت”]
***
كانت لي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي محاولات في هذا المجال، مجال “تحيين” قضايا النهضة في الفكر العربي، وهي التي أريد اليوم تجديد التفكير فيها. كان ذلك عندما بدأت أعمل من أجل الوفاء بالوعد الذي قطعته على نفسي في مقدمة كتابي “نحن والتراث” عام 1980، حين غامرت وأعلنت عن عزمي على تأليف كتاب في “نقد العقل العربي”. لم أكد أتقدم في البحث حتى بدأ يهيمن على فكري سؤال إشكالي ذو طبيعة بيداغوجية: كيف يجوز مواجهة القارئ العربي المعاصر بكتاب في “نقد العقل العربي” يتخذ من النقد الإبيستيمولوجي للتراث العربي الإسلامي منهجا ومن علوم هذا التراث مادة، وهو –أعني القارئ العربي المعاصر- يجهل أو يكاد هذا التراث وعلومه؟
ومن أجل تجاوز هذا الإشكال على صعيد “المادة المعرفية” (أعني علوم التراث) قررت القيام بدورين في آن واحد: دور العارض المحلل، ودور الناقد. أما على صعيد المنهج (أعني النقد الإبيستيمولوجي)، فلم أجد طريقة أخرى لتجاوز ذلك الإشكال غير البدء أولا بممارسته في مادة يعرفها القارئ العربي المعاصر أو هي قريبة المنال لديه. ومن هنا راودتني فكرة القيام بدراسة تحليلية نقدية (نقدا إبيستيمولوجيا) لـ”الخطاب العربي المعاصر”. ومما سهل المهمة علي أنه كان قد تجمع لدي، من خلال تدريسي في الجامعة للفكر العربي الحديث والمعاصر، ما يكفي من المادة المعرفية لإنجاز الدراسة التحليلية النقدية المطلوبة. وهكذا انحصرت مهمتي في إعادة توزيع هذه المادة بالصورة التي تفي بالغرض، ثم تحقيق هذا الغرض نفسه: أعني ممارسة النقد الإبيستيمولوجي فيها. وهكذا صدر كتاب “الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية” عام 1982، وقد تضمن، فضلا عن الدراسة التحليلية النقدية المطلوبة، مقدمة وخاتمة.
أما المقدمة فقد خصصتها لشرح المنهج من خلال تحليل مفهومين كانا جديدين يومذاك على القاموس العربي المعاصر، هما : “الخطاب” discours، و”القراءة” lecture. كانت هناك محاولات من بعض المترجمين لنقل مضمون هذين المفهومين إلى العربية: بعضهم استعمل كلمة “إنشاء” وبعضهم كلمة “مقال” لترجمة discours، وآخرون استعملوا كلمة “تفسير” أو “تأويل” لنقل معنى lecture. وفي النهاية استقر الأمر على اللفظين اللذين اخترتهما: الخطاب والقراءة، وكان للكتاب الذي نحن بصدده دور حاسم في هذا الصدد.
أما الخاتمة –خاتمة “الخطاب العربي المعاصر”، فقد جعلت عنوانها العبارة التالية: “من أجل الاستقلال التاريخي للذات العربية”. وواضح أن في هذا العنوان نوع من التجاوز لـ “الخطاب العربي المعاصر”، ليس فقط على مستوى ربط النتائج التي خرجت بها من تحليل هذا الخطاب بـمشروع “نقد العقل العربي” الذي وعدت به في “نحن والتراث”، بل أيضا على مستوى “التبشير” بمشروع جديد يواكب ذلك المشروع ويستفيد منه وفي نفس الوقت يتجه به نحو المستقبل.. إن الأمر يتعلق إذن بفتح آفاق جديدة لخطاب عربي معاصر جديد، يكون بديلا عن الخطاب موضوع التحليل والنقد.
وبما أن نقطة انطلاق “العقل العربي” إنما تمت –تاريخيا- فيما اصطلح على تسميته بـ “عصر التدوين”، عصر البناء الثقافي العام في الحضارة العربية الإسلامية، (ما بين 150هـ و300هـ تقريبا) فقد تراءى لي أن تجديد الفكر العربي المعاصر يجب أن يؤسسه “عصر تدوين جديد”، نقوم فيه بالنسبة للقضايا التأسيسية التي تشغل فكرنا في العصر الحاضر بمثل الدور الذي قام به علماء عصر التدوين العباسي بالنسبة للقضايا التأسيسية التي كانت تشغل عصرهم. إن ذلك يعني أن علينا أن نقوم بإعادة النظر، بكيفية جذرية، في القضايا التي شغلت “الخطاب العربي المعاصر”، كما كانت تطرح في الثمانينات، وهي قضايا النهضة والتجديد، والأصالة والمعاصرة، والدين والدولة، والديموقراطية والأهداف القومية، والوحدة والاشتراكية، وتحرير فلسطين، وتأصيل فلسفة الماضي، وتشييد فلسفة عربية معاصرة الخ. كان النقد الذي مارسناه على هذه الموضوعات نقدا إبيستيمولوجيا يفكك الأغشية الإيديولوجية التي لُفَّت فيها، سواء منها تلك التي تُستمد من التراث أو تلك التي تُنقل من الفكر الأوربي. وكان الهدف جعل التفكير العربي يستعيد استقلاله وسلطته في تعامله مع هذا وذاك، وصولا إلى استعادة الذات العربية لاستقلالها التاريخي التام: الاستقلال عن التراث باحتوائه وتحقيقه، والاستقلال عن الفكر الأوربي بامتلاكه والإمساك به في زمنيته ونسبيته.
تلك هي المهمة التي طرحتها خاتمةُ “الخطاب العربي المعاصر” مقرونة بالمهمة الأصل: “نقد العقل العربي”، فغدا واضحا أن المؤلف يتجاذبه مشروعان: مشروع “نقد العقل العربي” من خلال تجلياته في التراث العربي الإسلامي، ومشروع “تدشين عصر تدوين جديد” للقضايا التي تشغل تفكيرنا الراهن.
وأحسب أن قليلا من القراء والكتاب قد انتبهوا إلى أنني بدأت فعلا في العمل في هذا المشروع الثاني في نفس الوقت الذي كنت منهمكا فيه في إنجاز المشروع الأول. لقد حدث في السنوات الأخيرة أن تساءل بعض الكتاب الذين يتابعون كتاباتي، وبعضهم طرح علي السؤال مباشرة، قائلين: لقد تم إنجاز “نقد العقل العربي” في أربعة أجزاء فأين مشروع “تدشين عصر تدوين جديد” الذي وعدَت به خاتمة “الخطاب العربي المعاصر”؟
كان ردي على هذا السؤال هو التالي: الواقع أنني بدأت فعلا في هذا المشروع الثاني مباشرة بعد صدور الطبعة الأولى من “تكوين العقل العربي” (1984) وذلك بمقالات شهرية متسلسلة نشرتها على مدى ست سنوات (1984-1990) في مجلة “اليوم السابع”، الأسبوعية الفلسطينية التي كانت تصدر من باريس، وكان العنوان الدائم لتلك المقالات هو: “من أجل تدشين عصر تدوين جديد”. ثم أردفتها بمقالات أخرى نشرت خلال التسعينات على صفحات جرائد ومجلات…
كانت تلك المقالات بمثابة بدء العمل في مشروع “تدشين عصر تدوين جديد”، وقد عبرت عن ذلك في خاتمة المقالة الأولى حين كتبت أقول: “إننا نحن العرب نعيش اليوم نهاية مرحلة أصبحت قديمة ونقف على عتبة مرحلة ستكون جديدة. ويكفي أن ننظر إلى التحديات العديدة المختلفة التي تواجهنا في كل مجال لندرك أهمية وخطورة “اليوم السابع” (نهاية الأسبوع، نهاية المرحلة) الذي نعيشه. إنه “يوم” يفرض علينا القيام بمراجعات شاملة لكل مرافق حياتنا الفكرية والسلوكية. وبعبارة أخرى إنه يتطلب منا، في الجانب الثقافي على الأقل، تدشين “عصر تدوين” جديد، يكون بداية لانطلاقة تاريخية لثقافتنا وفكرنا، كتلك التي عرفها تاريخنا قبل أربعة عشر قرنا، أثناء العصر العباسي الأول” (اليوم السابع 10 سبتمبر 1984).
لا أشك في أن بعض القراء قد اطلعوا على بعض تلك المقالات، ولكن من المؤكد أن جيل الشباب العربي المعاصر لم يطلع عليها بسبب عامل السن. ومع أن هذه المقالات، سواء منها ما نشر في الثمانينات أم ما نشر في التسعينات من القرن الماضي، كانت ولا تزال، كما وصفها أحد الزملاء “مقالات صامدة”، فإن التطورات التي عرفها العالم، بما في ذلك العالم العربي، خلال السنوات التي تفصلنا عنها، تجعل “تحيينها” أمرا ضروريا، إذا نحن أردنا أن تكون ناطقة عن الهم النهضوي الذي يسكننا، ومعبرة في الوقت نفسه عن التلوينات التي تعكس التطورات الجديدة التي تفرض نفسها علينا، إن على صعيد الرؤية أو على طريقة النظر.
إن “تدشين عصر تدوين جديد” مشروع متجدد يطرح نفسه علينا في كل وقت، وبالتالي يطرح باستمرار ضرورة تجديد التفكير في قضاياه وإعادة النظر في مسائله.