عبد الله العروي : الفن و الحداثة
الفن و الحداثة – عبد الله العروي * . مجلة علامات العدد 9 – يناير 1998.
لنتأمل هذه الواقعة الغريبة المتمثلة في ازدهار مدرسة مغربية في الرسم التي أتاح اكتشافها للجمهور الفرنسي مؤخرا معرض عام بمدينة غرونوبل (ماي 1985). لقد تردد بأن هذه المدرسة لم تدرس بما فيه الكفاية. قد يكون هذا صحيحا، لكن أعتقد بأن ما ينقص بالعكس هو رأي المؤرخ.
يستعمل المؤرخ، بحكم تخصصه و مهنته، الإنتاج الفني كوثيقة. لكن نادرة هي الوثيقة في المجتمعات العربية الإسلامية، و يأسف المؤرخون المغاربيون جميعا، كما هو الشأن عند زملائهم الأوربيين و الآسيويين، لعدم تمكنهم من معاينة طريقة أجدادهم في اللباس و التجميل و التزيين في الماضي. إن جل الرسامين المغاربة كما يمكن لكل واحد أن يلاحظ ذلك، هم رسامون تجريديون. أضع نفسي في مكان مؤرخ المستقبل و أقول سيأسف هو الآخر لكوننا انتقلنا من فن الزخرفة إلى فن التشخيص. يمكن للرسامين أن يردوا عن حق: انظروا إلى الفوتوغرافيا و السينما و التلفزيون، إننا لا نستطيع أن نكون أوفياء أكثر من هذه التقنيات الجديدة.
لقد ولد الرسامون المغاربة لعالم كان يملؤه سلفا رسم غرائبي ذي طابع جيد أحيانا و دون قيمة أحيانا أخرى. ننكب على هذا الإنتاج فنجد فيه سحرا ما لأن مغرب اليوم لا تربطه بمغرب الأمس إلا روابط ضعيفة و واهية. الرسام المغربي لسنوات الخمسينات، الذي كان يعيش في مناخ مختلف، لم يكن يحب اللون المحلي (pittoresque). و قد تقولون: و ماذا عن الرسم الفطري؟ نعم لقد كان موجودا بدون شك؛ بل و كان مزدهرا. رغم ذلك كان على هذا الرسم أن يكون فطريا. إن الاختلاف بين رسام استعماري و آخر مغربي يكمن في المهنة التي، إذ تصير مكتسبة، تغير العين: (النظر / النظرة) و تقضي على الدهشة المصطنعة. لكن الكثير من رسامينا المغاربة تعلموا التقنية بالمغرب أولا، ثم خارجه بعد ذلك. لقد تعلموا تقنية الفترة التي عاشوا فيها و ليس تقنية القرن التاسع عشر، تلك التي كانت في الوقت ذاته ميتافيزيقا حسب التعبير المشهور لـ ج.ب. سارتر. ما هي هذه التقنية / الميتافيزيقا ؟ إنها بالضبط تقنية / ميتافيزيقا الحداثة التي عبرت عن نفسها أولا في الفن. لقد سبق أن قلنا هذا. كتب الكثير عن أزمة الرواية (موت البطل، اختفاء الطبيعة، انحلال الموضوع، تفكك الزمن، الخ.)، قبلها بخمسين سنة عرف الرسامون المشاكل نفسها. إن ما يجب تأكيده هنا مع ذلك هو استعدادية الرسام المغربي. إن الناقد الأجنبي، و هو يلاحظ انزلاق الرسام المغربي نحو الرمزية و التعبيرية و التجريد، يتحدث عن التقاءات و مصادفات و عن تأثيرات مجازفا بطمس استعداد الرسام المغربي لهذا التوجه.
لا ترسم انطلاقا من الطبيعة؛ اللوحة في الرأس لا أمام العينين، الخ. هذه رسالة يكون الرسام المغربي مستعدا لسماعها و فهمها و تأملها، هو الذي لا يحب الطبيعة التي يستنسخها الفن الاستعماري و يوجد في عالم كل شيء فيه، من التنظيم الحضري إلى هندسة الجوامع، و من تزيين الجدران إلى فن تزويق المخطوطات، يذكره بأن الفن، بما هو صنعة (artifice) قبل كل شيء، هو مجهود واع و منظم غايته التخلص من الجسد لمعانقة الروح. يتم التأكيد للرسام بأن موضوع اللوحة لا يوجد خارجها، و بأن كل ضربة فرشاة، تقرب أو تبعد من ما هو مطلوب بناؤه أكثر مما هو مطلوب إيجاده و اكتشافه، و بأن اللوحة ليست سوى خطاطة للوحة أخرى؛ الوحيدة التي تهم و التي تكون دائما غير مكتملة. أطروحة قريبة جدا، على ما يبدو، من شعرية عربية لكلمة “معنى” (فكرة) فيها شأن مناسبات القول. لكن الأفكار لا يمكن إحصاؤها. محكوم على الشاعر أن يكرر ما قاله سابقوه مرات عديدة، لكن بتجربته لتوليفات جديدة، و بتوليفات عدة يمكنه أن يأمل الوصول يوما إلى فكرة لم يستطع أحد من قبل اكتشافها و القبض عليها بواسطة الكلمات. و هذه الفكرة ستخلد في الدواوين بعد أن تفقد سامعها لبرهة وجيزة حسن الواقع (الطرب). إن ملاحقة الأفكار هاته، كالملاحقة الأخرى، يجب أن تمارس على الدوام، إذا كان عليها أن تكون منتجة. على الرسام -أيضا- أن يظل في عملية تجريب دائم دون أن يكون متيقنا من النتيجة أو راضيا بها. إن العمل دائما مفتوح.
لنلخص ما سلف. لقد سبق أن قلنا إن الفن في حد ذاته حداثة. الموقف من الفن و من الحداثة هو ذات الموقف. كيف يتصور المؤرخ، عالم الاجتماع هذه القضية ؟ ماذا يقول عنها الفيلسوف التيولوجي؟.
يأسف الأول لنفسه و للاحقيه على غياب الموضوع في الرسم، كما هو الأمر في الرواية و الشعر. أيعني هذا أنه يحمل حنينا دفينا للواقعية الاستعمارية؟ لا، لأن هذا الفن كان، على طريقته، فنا فقيرا جدا. انطلاقا من رأي مسبق يناقض الإنسان و التاريخ، كان يقدم لنا هذا الفن مغربا عتيقا لمشاهدته، مغربا غريبا جدا عن انشغالات الناس. إن المؤرخ، و قد صار ناقدا فنيا بهدف تذوق الرسم المعاصر، يدرك أن هذا الرسم نتيجة لتأثيرات متداخلة داخلية و خارجية.
أما الفيلسوف التيولوجي فسيجد في هذا الرسم، ما سيشجعه على المضي في هذه الطريق بعض الفنانين بكلامهم و حديثهم أكثر مما يسشجعونه بواسطة ممارساتهم عبر ادعائهم أنهم ظلوا أوفياء لتراث اللاتشخيص، و بادعائهم -أيضا- أنهم يعيدون إحياء فن الزخرفة و فن الخط، ملمحين إلى أن ما يكمن وراء اللوحة هو بالتأكيد الغيب الذي يكشفه الله للذين اصطفاهم. لنترك المتصوفة يخاطبون المتصوفة.
إن الفيلسوف التيولوجي سيجد صعوبة في تفسير الدافع الذي كان وراء ظهور هذا الشكل من الفن و غزوه لحقول كثيرة. أما المؤرخ، من جانبه، إذا أسف في أعماق نفسه لكون هذا المشكل لا يعكس مسيرة الحداثة، فإنه يدرك أنه علامتها (أي الشكل من الفن) الأقل التباسا.
* عن مجلة علامات بتصرف.
ترجمة كمال التومي عن كتاب: Islam et modernité – Abdellah Laroui, pp 72 – 75.