محمد عابد الجابري : تجديد التفكير في مشروع سابق للتصحيح والتجديد
يعتقد معظم الذين سمعوا عن ابن رشد أو كتبوا عنه أو تعصبوا له أو ضده، من القدماء والمحدثين- أنه كان فيلسوفا تميز بشروحه لكتب أرسطو، وبرده على الغزالي وبانتصاره لفلسفة أرسطو في هذا الرد وفي كتب أخرى. هذا إلى جانب كونه فقيها كتب في الفقه كتابا متميزا هو “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، وأنه ألف في الطب كتاب “الكليات” …
كل هذا صحيح، ولكن يبقى مع ذلك أن ابن رشد ظل مظلوما، لم يعطعه القدماء ولا المحدثون حقه كاملا، سواء في أوربا العصور الوسطى التي شغل الناس فيها قرونا، أو في العالم العربي والإسلامي الذي بقي ذكره فيه محدودا، أو يكاد، في مؤلفات أصحاب التراجم و”الطبقات” (طبقات الأطباء خاصة)، أو في رسائل الدبلوم والدكتوراه التي هيأها أصحابها من المعاصرين العرب وغير العرب عن ابن رشد، في القرن العشرين!
أقول إن ابن رشد بقي مظلوما ليس فقط بسبب نقص في المعرفة به من جانب من ذكروه أو اهتموا به، بل أيضا لأن “التاريخ” نفسه ظلمه في بعض كتبه التي ظلت مفقودة. ذلك لأن فيلسوف قرطبة لم يكن مجرد مؤلف ينشر المعرفة بفهم ثاقب وبأسلوب متين ناضج، وبروح نقدية واتجاه عقلاني أصيل فحسب، بل كان في كل ما كتب ينزع نحو التغيير والإصلاح والتجديد. كان صاحب مشروع، أعلن عنه هو نفسه في غير ما مناسبة …
كان ابن رشد يعمل في كل ما كتب من أجل تحقيق هدف استراتيجي واحد هو: إعادة بناء الفكر والثقافة في عصره، وذلك بإعادة تأصيل الأصول في كل مجال من مجالات الثقافة العربية الإسلامية: في العقيدة، والشريعة، والفلسفة، والطب، والعلم، واللغة، والسياسة …
– ففي مجال العقيدة أكد بعبارات صريحة أن هدفه من التأليف فيها (خصوصا كتبه الثلاثة: “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”، و”فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال،”، و”تهافت التهافت”) كان، كما عبر هو نفسه: ” تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير” والرجوع بهـا إلى “الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها”، ووضع “قانون للتأويل” يبين للعلماء ما يجب تأويله، وما يجوز، وما لا يجوز، وكيف؟
أما في مجال الفقه فقد دشن عمله فيه بكتابه “الضروري في أصول الفقه” الذي افتتحه بتوجيه نقد قوي لفقهاء عصره الذين قال عنهم: “إن هاهنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء، فينبغي أن ننظر في أي الصنفين أولى أن نلحقهم؟ وظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون. والفرق بين هؤلاء وبين العوام أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين فيخبرون بها العوام من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد، فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين. ولو وقفوا في هذا لكان الأمر أشبه، لكن يتعدون فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلََّّديهم حكم على ما نقل عنهــم في ذلك، فيجعلون أصلا ما ليس بأصل، ويصيِّرون أقاويل المجتهدين أصولا لاجتهادهم، وكفى بذلك ضلالا وبدعة”. من أجل ذلك قرر تصحيح الوضع بفتح باب الاجتهاد وبيان أسباب الخلاف بين أئمة الفقه، فكان ذلك موضوع كتابه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، “الذي لم يعمل مثله” حسب عبارة القدماء. وقد عرض فيه الفقه الإسلامي عرضا نقديا يقوم على مقارنة المذاهب الفقهية الأربعة وبيان وجوه الاختلاف بينها ودواعيه، وترجيح ما اعتبره أقرب إلى مقاصد الشرع.
– وأما في المجال الفلسفي فقد أعلن فيلسوف قرطبة بكل صراحة في أول كتاب له في الفلسفة، أن غرضه هو استخلاص الآراء العلمية التي يقتضيها مذهب أرسطو وحذف الأقاويل الجدلية منها، مبينا أنه إنما اعتمد مؤلفات أرسطو دون غيرها من كتب القدماء (اليونان) لكونها “أشدها إقناعا وأثبتها حجة”. وهكذا جاءت شروحه على أرسطو غنية تتجاوز مجرد الشرح إلى آراء وأفكار اجتهادية لم تنقل عن أرسطو وإنما استخلصها من خط تفكيره، حجته في ذلك أن مذهب أرسطو يقتضي تلك الأفكار مع أنه لم يصرح بها. ومن هنا يصح أن يقال عنه إنه لم يكن مجرد شارح لـ”المعلم الأول” (أرسطو) بل كان مكملا له، بذل كل جهده لسد ثغرات مذهبه!
– أما في مجال الطب، الذي ألف فيه “كتاب الكليات في الطب”، فقد كان هدفه الأساسي منه بناء الطب على العلم، والعلم الطبيعي خاصة، لتكون الممارسة الطبية في الجزئيات منتظمة تحت “كليات” علمية وليس على مجرد التخمين والتقليد والتجارب العفوية التي كان يعتمدها أصحاب الوصفات الجاهزة من مؤلفي “الكنانيش” (التي تصف الدواء لكل داء) وغيرهم من المؤلفين في الأمراض والأدوية (يستثني بني زهر) من الذين يحصرون اهتمامهم في الجزئيات مغفلين الأسس والقواعد والكليات. والنتيجة أن أطباء عصره صاروا كما قال “أبعد خلق الله عن هذه الصناعة” (يعني علم الطب).
لقد كان الدافع له إلى البدء بتأليف “الكليات في الطب” هو إنقاذ الطب بوصفه علما له أسسه وأصوله وقواعده. يقول في مقدمة كتابه: “الغرض في هذا القول أن نثبت هاهنا من صناعة الطب جملة كافية على جهة الإيجاز والاختصار، تكون كالمدخل لمن أحب أن يستقصي أجزاء الصناعة، وكالتذكرة أيضا لمن نظر في الصناعة، ونتحرى في ذلك الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة”. ويؤكد المعنى نفسه في خاتمة الكتاب حيث يقول: “وبالجملة: من يحصل له ما كتبناه من الأقاويل الكلية يمكنه أن يقف على الصواب والخطأ من مداواة أصحاب الكنانيش في نفس العلاج والتركيب”.
أما في مجال العلوم الطبيعية، فقد رافقه منذ بداية مسيرته العلمية مشروع من أعظم المشاريع العلمية، هو مشروع إصلاح علم الفلك الذي كان يعتمد في عصره الاعتماد كله على بطليموس ونظامه الكوني. وكان الذي حرك هذه الرغبة في نفسه كون نظريات بطليموس لم تكن على وفاق مع ما تقرره العلوم الطبيعية الأخرى. إن العلم، في نظر ابن رشد واحد، لأن الحقيقة واحدة، فإذا عارضت العلوم بعضها بعضا ضاعت الحقيقة. كان ابن رشد مهتما بهذه المشروع طوال مسيرته العلمية التي بدأت وهو في السابعة والعشرين من عمره عندما قصد إلى بعض الجبال المرتفعة بناحية مراكش بالمغرب بهدف إجراء قياسات علمية حول حركة بعض الكواكب. ولكن كثرة أشغاله وتعدد مشاريعه العلمية جعلاه يؤجل الانكباب على إصلاح الفلك مرة بعد مرة إلى أن تقدمت به السن ووجد نفسه غير قادر على إنجاز هذا المشروع الذي يتطلب القيام برصد حركات الكواكب وتتبع مساراتها، فصرف النظر عنه وكلُّه أمل في أن يأتي من بعده من يتولى ذلك. قال في هذا الشأن: “”وقد كنت في شبابي أؤمل أن يتم لي هذا الفحص. وأما في شيخوختي هذه فقد يئست من ذلك إذ عاقتني العوائق عن ذلك قبل. ولكن لعل هذا القول يكون منبها لفحص من يفحص بعدُ عن هذه الأشياء، فإن علم الهيئة (الفلك) في وقتنا هذا هي هيئة موافقة للحسبان لا للوجود”، يعني أن علم الفلك في زمانه كان يقوم على نظريات حسابية (رياضية) لم يكن يراعى فيها ما هو موجود فعلا على مستوى الطبيعة”. وتشاء الأقدار أن يتصدى لهذه المهمة من بعده تلميذه نور الدين أبو اسحق البطروجي الذي ألف في الموضوع كتابا صار هو المرجع المعتمد في موضوعه – بأوربا- إلى أن ظهر كوبرنيك بنظريته التي أعلنت ميلاد علم الفك الحديث.
وبعد، فقد كان هدفنا من هذا العرض السريع للوجه الآخر لابن رشد، وجهه الحقيقي، التنبيهَ إلى أن فيلسوف قرطبة لم يكن مجرد عالم يهوى العلم، بل كان صاحب رسالة حددها لنفسه بكل وضوح، وعمل من أجلها باجتهاد منقطع النظير، رسالة القيام بالتصحيح الضروري في كافة مجالات الثقافة والعلم في عصره، وذلك بالتصدي لوجوه الجمود والتقليد والتحريف التي كانت منتشرة والقيام بالتالي بإعادة بناء المعرفة في مختلف المجالات بالرجوع إلى الأصول وتجديد الفهم واعتماد البرهان العقلي فيما يكفي فيه النظر العقلي المجرد، والركون إلى ما تعطيه التجربة فيما لا بد فيه منها.
ومع ذلك سيظل ابن رشد أكثر كثيرا مما ذكرنا لو أننا أهملنا ما بقي مجهولا من نشاطه العلمي منذ وفاته إلى ما قبل سنتين أو ثلاث! ذلك لأن جميع ما ذكرنا كان موجودا مسطورا في كتبه التي كانت بين أيدي الناس، منشورة أو مخطوطة. ولكن شاء القدر أن يبقى كتابان من كتبه مفقودين، لا يعرف عنهما غير اسميهما. الأول هو كتابه “الضروري في النحو” الذي خصصه لمشروع هام غير مسبوق، هو مشروع إعادة بناء النحو العربي بحيث يصبح كما قال : ” أقرب إلى الأمر الصناعي (=الطريقة العلمية) وأسهل تعليما وأشد تحصيلا للمعاني”، ويكون منهج التأليف فيه وعرض مسائله وفق “الترتيب” الذي هو “مشترك لجميع الألسنة”. كان هذا الكتاب مفقودا ولم يكتشف وينشر إلا قبل سنتين، في موريتانيا.
أما الكتاب الثاني، وهو في “السياسة”، فما زال أصله العربي مفقودا، ولم يبق منه سوى ترجمة له إلى العبرية. وقد عملنا على إعادته إلى لغته الأصلية، لغة الضاد، بالتعاون مع زميل مختص في العبرية، ونشرناه بعنوان “الضروري في السياسة” ضمن المشروع الذي أشرفنا عليه عام 1998 والذي لأعنا فيه نشر وتحقيق “مؤلفات ابن رشد الأصيلة”، التي كتبها فيلسوف قرطبة ابتداء أي التي تقع خارج الشروح على أرسطو.
“تجديد التفكير في مشروع متجدد” يتطلب أيضا استحضار هذا الكتابين: الضروري في النحو” و”الضروري في السياسة”.