اغتصاب النساء أوقات الحرب «قتل بدون جثة»
يعتبر الاغتصاب من المظاهر والأسلحة الوحشية في الحرب الأهلية وأضراره النفسية كبيرة كما تظهر أمثلة حية من سوريا والعراق. ففي ظل ثقافات أبوية، تشرعنها فتاوي رجال دين رجعيين، يظل احتقار الجنس الآخر مشكلة مركزية في الأزمات الراهنة للعالم الإسلامي.
اعتدت على السفر إلى سوريا مرتين أو ثلاث مرات في السنة وعلى امتداد سنوات للمشاركة في لقاءات علمية مع المحللين النفسيين السوريين. كان ذلك قبل اندلاع الأحداث. ودرجت الملحقية الثقافية للسفارة الفرنسية على تنظيم هذه اللقاءات من أجل الاشتغال على نصوص من التحليل النفسي. وكنت أشرف، إلى جانب إلقاء محاضرات، على المحللين النفسيين الشباب في سوريا، الذين كانوا يستقبلون لاجئين عراقيين في عياداتهم. بالطبع اللاجئون الذين عاشوا صدمات لها علاقة بالحروب التي شهدتها بلدانهم: تجارب عنيفة، جراح نرجسية، اقتلاع ذاتي وما يعرف أيضا بعصاب ما بعد الصدمة. وخلال المؤتمر الأول الفرنسي السوري، استعرضت علينا محللة نفسية سورية حالة امرأة تدعى مليكة، امرأة في السابعة والثلاثين، أرسلت بها منظمة إنسانية كانت قد استقبلتها بعيد الحرب التي شهدها بلدها. الأمر يتعلق بالطبع بالعراق.
لقد تم اختطاف أخيها وأبيها، وكان عليها دفع الفدية. “لكن ليس المال فقط ما دفعته من أجل إطلاق سراحهم، بل جسدها أيضا، وهي تنظر إلى هذا الأمر مثل سرها الشخصي. كانت تحكي عن الاعتداء الجنسي الذي تعرضت إليه ودموع حارة تمخر عينيها، تخونها الكلمات فتلجأ إلى الدعاء”. وتصف المريضة ما حدث معها قائلة: “دخل أحد المختطفين إلى غرفتي بعد أن قدمت إليه المال الذي طلبه. صوب مسدسه على صدغ طفلي الصغير الذي كان مستغرقا في النوم. عرفت حينئذ أنه كان يريد اغتصابي. رجوته أن يترك طفلي بسلام ويفعل ما يريد بي، فاغتصبني”. باكية تابعت قصتها: “تصوروا أنه نام معي في الوقت الذي كنت فيه حائضا. بعدها لم أعد تلك المرأة المحترمة. إني أشعر بالخزي”. لم تفش بسرها لأحد، “خوفا من أسرتها وخوفا من أن تتعرض للقتل”. “ماذا كان عساني أن أفعل: هل أتركه يقتل ابني؟”.
الاغتصاب والمؤنث
لماذا تستعمل النزعات الأكثر حقارة للجريمة صورة المؤنث؟ يظهر الاغتصاب كيف يتحول الجنس الأداة والمكان المفضلين لتدمير المرأة. إن الجنس يتجاوز الجنسي في هذا السياق. إنه أحد مظاهر التطرف في عصر البربرية. وفي علاقته معالمذكر والمؤنث، الرغبة واللذة، الحياة والموت، الزمنية (عبر سؤال النسب) يستعمل الجنس هنا في خدمة العنف ولصالح السيطرة. القتل وليس الموت، الإذلال لا اللذة. تسببت هذه الحالة في صدمة هائلة، لأن المرأة أجبرت على الدخول في علاقة مع هذه الغريزة الفظة للرجل، علاقة لا صلة لها بالإثارة، مع قوى مدمرة للنفسية.
إن الصدمة، يكتب ساندور فيرينزي “مرادف لتدمير الإحساس بالذات، لقدرة الصمود، والقدرة على الفعل والتفكير من أجل حماية الذات”. وأمام هذا الكسر الذي تتعرض له الذات، تتحرر الأنا من خصائصها الحياتية من أجل نسيان ما حدث. ومن أجل حماية نفسها من الإثارة الغريزية المدمرة، تتحول الذات نفسها إلى “فاعل يساهم في تبدد الإحساس الغريزي”، والذي لا يمثل سوى صورة أخرى عن غريزة الموت. إن الاغتصاب يخلق نوعا من التحول المقلوب للواقع. فعبارة “يمكنك النوم معي” تعبر عن تكرار في واقع التخيل الأصلي للإغراء. إن الفضائين (النفسي والخارجي) يتواصلان بشكل تعجز معه الآلة النفسية عن أداء وظيفتها كحامل للعالم الداخلي. إن ذلك يمثل نوعا من مسح للحدود. “أن تسقط في سكرة الموت ليس صنيعة اللغة” (فيليب بيسول). وفي الواقع فإن فعل اغتصب في العربية يعبر عن تدمير للنفسية عبر فعل العنف هذا. اغتصب يعني أخذ الشيء عنوة، لعبة لقوى غير متساوية. إنه فعل نزع الشعر عن الجلد حد الإدماء. إنه فعل يعبر عن الوحشية. وفي العربية من الدارج استعمال عبارة: “غصبها نفسها”. رأت في مرحلة حملها حلما. علي يضع يده على رأس مليكة ويقول: “ستضعين ذكرا. عليك أن تسميه عليا. سيكون كبيرا” وتتحول الأم مليكة إلى ملكة منذ ذلك اليوم، ولم لا؟ أليست هي أم هذا الذي سيصبح عليا كبيرا؟ فمن أجل هذا الرائع، الإبن الوعد، ضحت الأم بنفسها. لكن هذه التضحية تعلن نهاية لذتها واعتزازها بعلي. سيحكم على المرأة بالنفي، بالضياع أيضا لما تغادر الأرض الأم التي لم تعد تعطيها مسكنا، بل والتي أضحت مرادفا للعراء. وهي تقول :”كنت حائضا”، تعبر المريضة عن انثقاب للجسد النفسي وعن مسامية الأنا اللحم، سيلان نفسي، ثقب جسدي. شكواها تقول جلدا جلفا، بالمعنى الحقيقي لفعل اغتصب: نفايات، وسخ، اتهام ذاتي وتحملها للذنب الذي لا يحس به المعتدي. “كنت حائضا” هي الكلمات التي سترددها بشكل مرضي تعبيرا عن سيلان لا يتوقف. جرح أم تهب لنجدة إبنها حتى وإن استدعى ذلك أن تقتل نفسها كأم. وفي كلماتها لا وجود للأطفال الآخرين. كيف يمكننا أن نحمي أنفسنا ضد عملية الربط بين الايروتيكا وغريزة الموت؟ إذن هل تترافق تضحية المريضة مع تعطيلها لإحساس الأمومة؟
نفي الأمومة
يسرد دومينيك كوبا حالات وحشية بحق النساء، تتحقق كهجوم على الأمومي. كما هي الحال مع هذه المرأة البوسنية في العام 1996: “في أحد الأيام قام الجلاد بعصب نهود امرأة حتى يعرف كم سيستمر رضيعها في الحياة بدون طعام. ستقوم الأم نفسها بقتل إبنها من أجل الحد من آلامه”. يتحدث دومينيك كوبا عن نفي لإحساس الأمومة يمكن أن يصبح راديكاليا أمام وحشية متطرفة، وحشية الموت الذي يهاجم الأم في جوهرها وسلطتها. فالأم التي يمكنها أن تعطي الحياة وتحافظ عليها، تجد نفسها أمام إكراه وحشي يرغمها على قتل الإبن. وهكذا يتم تعويض هبة الحياة بهبة الموت. وفي حالة مليكة، ولدى نساء أخريات عشن الاغتصاب، يتولد إحساس بالحقد على الذات، ويتحول الإبن الذي يجب إنقاذه إلى موضوع ملعون. “لكن الأمر الأكثر تراجيدية يتمثل في نجاحهم عبر ممارساتهم السادية والمنحرفة، تقول إحدى النساء، في أن يقتلوا فينا كل إحساس سابق بحياة إنسانية”. يتحدث أندريه غرين عن “الغول البارد والمتوحش للتدمير الذي يترافق مع الأشكال الأكثر تقليدية للشر.” إن التوحش المنحرف يتلذد بقتل الحياة. إن الهو يستسلم لفوضى غرائزه، وتصبح الجريمة الوسيلة والغاية في آن. إن المرأة المغتصبة تجد نفسها أمام سلطة قاتلة، “تنزع عنها جلدها الإنساني”.
وفي بعض الأبحاث التحليلية، نربط المعيش الصدمي بتجارب صراع أو صدمة سابقة لأوانها أو نربطها أيضا بنواة مازوخية لدى بعض النساء. لكن هنا يتعلق الأمر بالاغتصاب وصدمة الحرب، بوضعية تقع خارج سلطة الإنسان الذي يتعرض لها. سنوسع من فهمنا للصدمة إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الوضعيات المتطرفة (القصف الجوي، الحروب والكوارث الطبيعية) والتي تتسبب بتدمير الأغشية النفسية، وضعية تشعر الضحية بنفسها يتيمة، نوع من التخارج النفسي، للعراء، كتهديد دائم بعدم الأمان ونتائجه الكارثية (التي تعدي المحلل). إن الذوات تجد نفسها أمام أخطار مدمرة يمكنها أن تقود إلى سلوكيات خطرة ومواقف انقلاع ذاتي لدى المرضى وإلى وضع صادم أو إلى اكتئاب حاد لدى المحلل النفسي. وغالبا ما تتعرض النساء المغتصبات في العالم العربي إلى الهجر لأنه يتم اعتبارهن متسخات، وسخن شرف الرجل والأسرة بأكملها. وهكذا تتعرض المرأة لعنف مزدوج. إن المرأة المغتصبة تقول للرجل: “هتكوا لك عرضك”. إن الأمر لا يتعلق بجسدها ونفسيتها، ولكن بشرف الرجل. أتذكر النساء الجزائريات، وكنت حينها في بداية عملي كمحللة نفسية، اللواتي تعرضن لعمليات اغتصاب جماعية، خلال العشرية السوداء، اللواتي تعرضن للهجران لأنهن اعتبرن متسخات واضطررن لمغادرة البلاد. وعند سؤالها عن ثقل تأثير ذلك، تقول المحللة النفسية السورية، الأم الشابة: “يمكن لذلك أن يحدث لنا أيضا”. ومنذ أن اندلعت الأحداث في سوريا لم يعد بإمكان النساء العراقيات اللجوء إلى هذا البلد.
الفتاوي
تضاف فتاوى الفقهاء إلى واقع تسوده وحشية الحرب والاختفاء بالجملة والأحكام التعسفية وإلى اليومي المجهول وآلام الشعب السوري بسبب الطغيان والعراق الذي ينفجر يوميا، الفوضى والأسى. ويقوم الفقهاء بتشجيع مرتزقة الحرب على التوجه إلى سوريا وسبي النساء. كما تقوم «داعش» بتقديم النساء والفتيات الصغيرات إلى مقاتليها من أجل دعم روحهم الحربية، بشكل يناسب الملاحظات الفرويدية في كتابه «قلق في الحضارة» والذي يتحدث عن التنازل عن الغريزة كشرط أساسي لبناء الحضارة. يتحدث فرويد عن التخلي عن الإشباع الغريزي الفظ. لكن «داعش» تريد بناء الحضارة على أسس غريزية فظة لا تقبل بأي تنازل أو إعلاء.
أن يرغب الرجل بالاستمرار في فرض سيطرته، أمر يدخل في منطق «الحرب والسلام بين الجنسين». لكن السماح بعودة البربرية القديمة التي تمتدح الاغتصاب والسيطرة على النساء كسبايا، وتدمير المواقع التاريخية (ضريح فاطمة هو واحد منها مثلا) أمر يضعف الفكر ويتجاوز الكلمات والقدرة على الترجمة ويضع المحلل أمام مشاكل للتأويل لأننا نتجاوز البعد الفانتازمي والواقع النفسي (الذي يمكن تأويله) لكي نصغي لما لا يصدر عن الذات، وعن فضاءها النفسي، بل عن بيئة تحكمها الفوضى. وتصطدم صدمة المريضة بما يصبح صدمة عند المحلل بالنظر إلى الابتعاد عما يسمى بالعلاج المثالي (الحياد اليقظ، التشاركية، انتظام الجلسات، الاحتفاظ بالإطار نفسه) وبالنظر إلى التزامه بقيم التحضر والثقافة. إن التحدي الإكلينيكي كبير: هل يمكننا أن نعطي معنى لهذا القتل المجرد من كل معنى والذي يصدر عن مكان هو طبيعيا مكان المتعة؟
إستعادة جنسية الجنس عبر إعادة تكوين الأغشية النفسية، هو ما تطلبه هذه المرأة من المحلل. إذا كان “الاغتصاب قتل بدون جثة” لأنه يقتل “عبر عذابه الذي لا يتوقف عن إنتاجه. إنه يحكم على ضحيته بالضياع والمنفى داخل جسده الفيزيقي والنفسي والاجتماعي والأسري والثقافي”. إن استرجاع جنسية الجنس، وتجاوز هذا الموت الذي يصدر عن مكان هو، طبيعيا، مكان للحياة والمتعة، وإعادة تكوين الأغلفة النفسية، يصبح التحدي الإكلينيكي لكل محلل أو معالج نفسي. وإزاء هذا السياق الذي يشل القوى التمثيلية، فإن المحلل يغرف من احتياطي الينابيع المتخيلة، من أجل إشراك وتحسيس المريض والخروج من دائرة الشلل. الإمساك مثلا بالجملة التالية: “ضاجعني لما كنت حائضة” من أجل تذكير المريضة بواقع الحدث، وأنها كانت ضحية، والسماح لها عبر ذلك بالتحرر من “هذا الخلط بين اللغة” بالمعنى الذي يقدمه ساندور فيرينزي ومن شعور قاتل بالذنب. كل ذلك عبر تسميتنا لوحشية الحرب التي تفك التمثل وتتسبب بانفصال وانفجار غريزة الموت، في محاولة لتسمية الجنسي عبر ربطه بالحياة. ومن أجل مساعدة المريضة على التفكير بالصدمة النفسية، يتوجب إعادة النظر بهذه الصدمة في سياق الثقافة والتاريخ الجمعيين اللذين ورثناهما.
عن مجلة فكر و فن – نونبر 2014
حورية عبد الواحد – محللة نفسية.
ترجمه عن الفرنسية: رشيد بوطيب