محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية وقضية الديمقراطية !
نعيد نشر هذه المجموعة من المقالات للمفكر الراحل محمد عابد الجابري تزامنا مع الضجة التي خلقتها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول الصحراء المغربية. و قد نشر هذا المقال بعنوان “الصحراء المغربية و قضية الديمقراطية !” يوم الثلاثاء 10 يوليو 2007.
بدأت في الشهر الماضي – ومن المقرر أن تستأنف في الشهر القادم- مفاوضات بين وفد مغربي وآخر من “البوليساريو”، بحضور “الأطراف المعنية” ورعاية الأمم المتحدة. أما موضوع المفاوضات فيتعلق بقضية الصحراء المغربية. وكما نبهنا على ذلك في خاتمة المقال الماضي، فقد ارتأينا أن نتوقف إلى حين عن متابعة سلسلة المقالات التي كنا ننشرها لننتقل إلى سلسلة أخرى نشرح فيها فصول هذه القضية كما عشناها.
وغني عن البيان القول إننا سنعبر هنا عن وجهة نظرنا، ولكن بإمكاننا التأكيد على أن وجهة النظر هذه لم تنشأ لدينا من خلال “القراءة والكتاب والتأمل”، بل اكتسبناها داخل الحركة الوطنية المغربية من خلال المعاشرة مع رجال جيش التحرير وقادته، والممارسة السياسية النضالية داخل التيار التقدمي فيها.
وأكثر من ذلك، فكاتب هذه السطور هو ابن الصحراء المغربية الشرقية وقد رأى بأم عينيه وخلال سنوات طفولته كيف كان الاحتلال الفرنسي في الجزائر يقتطع أجزاء من الأراضي المغربية ويدفع بالحدود داخل التراب المغربي ليوسع من مساحة “الجزائر الفرنسية” كما كان “يحلم” بها، وكان من آخر ما فعله في هذا الصدد عام 1949 هو ضم “تندوف” وناحيتها وإنزال العلم المغربي وإحلال العلم الفرنسي محله في مكتب حاكمها الفرنسي. أما بعد قيام الثورة الجزائرية عام 1954، فقد دأبت سلطات الاحتلال على اقتطاع أجزاء من الصحراء الشرقية المغربية وعلى طول الحدود مع الجزائر لتقليص ساحة التجمع والتدريب التي كانت تتحرك فيها الثورة الجزائرية داخل تراب المغرب “المستقل”. لم تكن هذه الاقتطاعات من التراب المغربي تعني آنذاك شيئاً في ذهن كاتب هذه السطور، فلقد كان الاتجاه شرقاً أو غرباً من مسقط رأسه فكيك (فجيج)، لا يعني أكثر من التحرك داخل نفس البلد، خصوصاً أنه كانت لعائلته ولسكان مسقط رأسه عموماً ممتلكات موثقة في الشرق (من بشار إلى توات) أهم وأكبر مما كان لديهم في جهة الغرب، كما أن العمال والتجار كانت وجهتهم في الغالب نحن الشرق: أعني نحو الجزائر. وعندما قامت الحركة الوطنية في مسقط رأسه لم يكن ارتباطها بـ”جمعية علماء الجزائر” و”حزب الشعب الجزائري” بأقل من ارتباطها بزعماء الحركة الوطنية المغربية في فاس والرباط.
ولم يشعر صاحبنا وجميع أفراد بلده وناحيتها، بأن الجزائر شيء والمغرب شيء آخر إلا عندما صادقت الحكومة الجزائرية على قرار أجازته منظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا (فبراير 1963) ينص على أن الحدود التي تركها الاستعمار هي المعترف بها. ومع أن الحكومة المغربية قد سجلت تحفظها على ذلك القرار، فإن سكان المنطقة الشرقية من المغرب قد حملوا مسؤولية ما حدث للحكومة المغربية التي فضلت، أثناء مفاوضات الاستقلال، القبول بالحدود التي فرضتها في الجهة الشرقية قوات الاحتلال في الجزائر – وكانت ما تزال ترسمها- والثورة الجزائرية حامية الوطيس. لقد كان الوطنيون في المغرب يرون أنه لابد من الدخول في حرب تحرير ضد القوات الفرنسية من أجل استرجاع ما اقتطع من أراضيهم، وسيكون ذلك في نظرهم في إطار التضامن مع الثورة الجزائرية.
فعلاً، بدأ قسم من “جيش التحرير” تحركاته في هذا الإطار بالناحية الشرقية انطلاقاً من تافيلالت وفجيج، غير أن احتكاكات حدثت مع جيش التحرير الجزائري جعلت الحكومة المغربية تقرر توقيف نشاط جيش التحرير المغربي ثم حله، لتكتفي بتصريح من الحكومة الجزائرية المؤقتة يفيد أن قضية الحدود بين المغرب والجزائر ستعرف حلها الأخوي عند استقلال الجزائر. وكان ذلك التصريح تأجيلاً للقضية إلى أجل غير مسمى.
عندما وصلت قضية الصحراء المغربية إلى هذه المرحلة من تطورها، كانت قضية الديمقراطية في المغرب تجتاز مرحلة شبيهة. والواقع أن قضية الصحراء وقضية الديمقراطية في مغرب الاستقلال تتشابهان في كثير من الوجوه؛ أهمها بالنسبة لموضوعنا هنا هو أنهما عانتا معا من التأجيل ، خلال العشرين سنة الأولى من الاستقلال، وأنهما عادتا لتحتلا معاً الواجهة السياسية والوطنية عندما بلغ التفريط في كل منهما درجة من الخطورة أصبحت تهدد كيان الدولة المغربية.
وكما عانت قضية الديمقراطية من “التأجيل” في السنوات الثلاث من الاستقلال (1956-1960)، ومن الانقلاب ضدها طوال العشرية التالية (1963-1974)، عرفت قضية الصحراء المغربية وضعاً مماثلاً طوال الفترة نفسها. وهكذا فتأجيل الاشتغال بقضية الصحراء الغربية التي كانت تحت الاحتلال الإسباني كان من قبيل الأمر الواقع بين سنتي 1956-1958 حين كان “الاهتمام” منصرفاً إلى “استرجاع موريتانيا”، ثم أصبح هذا التأجيل سياسة مقصودة ابتداء من سنة 1959 حين تقرر حل جيش التحرير العامل في الصحراء المغربية، الغربية والشرقية، التي لم تسترجعها اتفاقية الاستقلال عام 1956، تلت ذلك متابعة خافتة من طرف الحكومة المغربية لقضية صحرائنا في الأمم المتحدة، إلى أن كان صيف عام 1974، (أي مباشرة بعد المحاولتين الانقلابيتين 1971-1972 وأحداث 1973).
فعلاً يشكل صيف عام 1974 نقطة انطلاق لمسلسل واحد، تشابكت فيه قضية استرجاع الصحراء مع قضية استعادة الديمقراطية. ولذلك، فعندما رفعنا في “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” -أثناء الإعداد للمؤتمر الاستثنائي الذي سيتحول فيه اسم هذه المنظمة العتيدة، إلى “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية- أقول عندما رفعنا في خريف سنة 1974، شعار “التحرير والديمقراطية” ووضعناه تحت شعار أعم هو “استمرار حركة التحرير الشعبية”، لم يكن ذلك من قبيل اختراع الشعارات من أجل الدعاية السياسية، بل كنا في الحقيقة نؤكد على ضرورة استمرار وإنجاح المسلسل الذي تقرر السير فيه منذ يونيو 1974، أي مسلسل استكمال تحرير التراب الوطني وبناء الديمقراطية، وبعبارة أخرى: استئناف النضال من أجل استرجاع الصحراء، وفي نفس الوقت استئناف المسيرة الديمقراطية التي أوقفت سنة 1963 (مؤامرة تصفية الاتحاد والمقاومة في 16 يوليو).
كانت نقطة الانطلاق هي ذلك اللقاء الذي جرى بين المرحوم الحسن الثاني والمرحوم عبد الرحيم بوعبيد (الكاتب الأول للاتحاد) في يونيو 1974. لقد جرى ذلك اللقاء على إثر قرار إسبانيا (فرانكو) إجراء استفتاء في صحرائنا الغربية، وكان الهدف هو إقامة شبه دولة “مستقلة” تابعة لها. ولما تبين للمغرب، حكماً ومعارضةً، أن هذا المخطط كان بتواطؤ مع الحكومة الجزائرية، والتي كانت تطمح إلى الوصول بحدودها الغربية إلى المحيط الأطلسي عبر هذه الدولة المزعومة، اكتست القضية حينئذ بعداً آخر: تطويق المغرب وعزله من الشمال والشرق والجنوب (والمحيط الأطلسي من الغرب). كان هدف إسبانيا من ذلك ضمان استمرار احتلال سبتة ومليلية وضمان تأييد الحكام الجزائريين. أما هدف هؤلاء فكان ضمان استمرار استتباع تندوف ومنطقتها والحصول على منفذ إلى المحيط الأطلسي (على مسافة 300 كيلومتر) لتسويق معادن هذه المنطقة (حديد “كارت جبيلات)، خصوصاً بعد أن تبين أن تصديره عبر الموانئ الجزائرية على مسافة 1500 كيلو متر، مكلف جداً.
لقد باتت وحدة التراب الوطني في نظر المغاربة مهددة بجد، فكان لا بد من الإجماع الوطني. وهذا كان يتطلب في حينه تفاهماً وتوافقاً بين الحكم والمعارضة، أي حل المشكل الديمقراطي أولاً. فما كان يجعل من المعارضة طرفاً في مقابل الحكم كطرف آخر، هو ما تعرّضَ له مسار الديمقراطية في المغرب من انتهاكات وانقلابات سنوات 1960-1963، وما تلا ذلك من تبني الحكم الفردي المطلق كاختيار. وكما أن قضية الصحراء عرفت تطورات سلبية باتت تهدد وحدة التراب الوطني، فقد عرفت قضية الديمقراطية بدورها، وفي الفترة نفسها، تطورات باتت هي الأخرى تهدد كيان الدولة. كان من الضروري إذن استخلاص الدرس من محاولة انقلاب الصخيرات 1971 ومحاولة انقلاب أوفقير 1972 وحوادث مارس 1973، كما كان من الضروري استخلاص العبرة من حل جيش التحرير عام 1959، ومن سياسة تهميش قضية استكمال وحدة ترابنا الوطني.
ذلك ما تم في لقاء 1974 بين الملك وبوعبيد. لقد وقع الاتفاق آنذاك على الشروع في مسلسل يؤدي في الحين إلى العمل معاً على استرجاع الصحراء الغربية من جهة، ومن جهة أخرى إطلاق المعتقلين الاتحاديين والشروع في الإعداد لانتخابات محلية وتشريعية.
كان ذلك سنة 1974. والنتيجة التي يمكن استخلاصها اليوم من تطور قضية الصحراء وقضية الديمقراطية في المغرب منذ ذلك الوقت إلى اليوم، هي ما يراه العالم أجمع: مفاوضات حول قضية الصحراء مشكوك في أن تسفر عن شيء يختلف عما هو قائم الآن، واستعداد لانتخابات تشريعية لن تسفر في نظر جميع المراقبين عن شيء يختلف عما هو قائم اليوم.