حوار – بورخيس : فخور أنا لأخذي مأخذ الجد
حوار مع خورخي لویس بورخيس.
أجرى الحوار : روبيرتو أديفانو – لـ ماغازين ليتيرير. 20يناير 1982
ترجمة : محمد صوف
عن الحداثة
– في السنوات الأولى من القرن العشرين أعطت الحداثة للأدب الأسباني الذي كان يعيش فترة انحطاط منذ العصر الذهبي نفساً جديداً. ألا تعتقد أن هذه التجربة أفرزت استعداد الأدب الأسباني لمغامرات أكثر مجازفة ؟
أعتقد ذلك. فقد كان القرنان 18 و19 فقيرين. لم تتوصل إسبانيا قط إلى أن تكون كلاسيكية، فاللون المحلي والشكل الغير المنتظم للمسرح فيها حالا دون مقاربتها للكلاسيكية. وفى الآداب الأوروبية الأخرى كان هناك عكس ما عرفته إسبانيا من انحطاط بفعل تعقد وفعالية هذه الآداب. فقد أنتجت فرنسا مثلاً شعراء يثيرون الإعجاب.. وقد كان هناك رد فعل ضد الفخفخة والتشدق اللذين كانا سائدين في بعض أوجه الرومانسية آنذاك، ومع ذلك فلا أحد توقف عن إبداء الإعجاب بهوغو. وهذه المدارس التي تتميز ببعض الخصوصيات، والتي توالت في فرنسا، تم استقبالها بنوع من الإعجاب من لدن الأجيال الشابة في أمريكا اللاتينية وانتشرت بسهولة. أذكر في تلك الفترة في بوينوس آيريس وقد قيل لي نفس الأمر بالنسبة للمكسيك، أن الشخص لا يُعتبر مثقفاً إذا كان يجهل الفرنسية. فكان عبور المحيط للدراسة أو استكمال الدروس بباريس نوعا من الجاه.
– وماذا عن موقف مثقفينا نحو إسبانيا ؟
كانت الجراح التي فتحتها حروب الاستقلال لا تزال غائرة، وكان الحقد تجاه كل ما هو أسباني قويا لدى مواطني أمريكا الجنوبية وكنا نشت الإسبان بلفظي غودو وغاييغو بينما كان إعجابنا بما هو فرنسي مفرطا.
– من هم الشعراء الذين أثروا على هذه الأجيال الشابة ؟
أولهام بودلیر وفيرلين. وقد مات خوسي أسنسيون سيلفا في سن الثلاثين وترك لنا قصائد جميلة جدا موسومة بنوكتورنوس، و لعله كان متأثراً بإدغار بو.
– كان سيلفا أحد رواد الحداثة الأكثر جلاء.
نعم. كان هناك أيضاً الكوبي خوليان ديل كاسال، والمكسيكي مانويل غوتیریزناخیرا مؤسس لا ریفیستا آزول، الذي رحبا بقصائد الشباب في القارة الأمريكية. وثمة اسم رائد آخر لا يقل أهمية هو الشاعر الثوري خوسي مارتي، وهو الذي توقع توجهاً جديداً في أدب أمريكا قبل كل الآخرين ب «اسماعيليتو» التى كتبها سنة 1882 لإبنه. وأعتقد أننا إذا ألقينا عليهم نظرة شاملة فسنجد أنهم كانوا يستعدون لمقدم شاعر عظيم من نيکاراغوا اسمه روبین داریو.
– تماماً كما يحق لنا أن نقول إن الرومانسية الفرنسية تقود إلى اسم هوغو. فمتى بدأت حكاية هذه المدرسة الشعرية بأمريكا ؟
أجیب آن ذلك کان سنة 1888، عندما أصادر داریو روبین آزول في الشيلي بفالبارايسو.. لهذا الكتاب أهمية تاريخية لا تناقش، لكن لم يبق منها سوی آبیات کتلک التي اهداها داریولی و ایتامان. و بعد سنوات، آي عام 1896، ظهار في بوینوس آیریس دیوان بروزاس بروفاناس وهو مؤلف دخل الأدب الأسباني وأدخل إليه إمكانيات جديدة في الإيقاع.. موسيقى جديدة.
مع داريو انتصرت الحداثة في أمريكا وأسبانيا كذلك، ففي سنة 1905 نشر «أغاني الحياة والأمل» وبعدها في اعتقادي «الأغنية التائهة». وفي هذين المؤلفين بلغ قمة القول وحقق ما لن يحققه ليوبولدو لوغونيس طيلة حياته. وعقد علاقة صداقة وعلاقة حميمية مع القارئ، وخلف البلاغة والإضافات الجمالية نستشف قدر روبن داريو المأساوي.
– وماذا عن كتاب النثر في حركة الحداثة ؟
لقد كتب داريو النثر أيضاً. ولا أحد يجهل أنه كان يجد ذاته في القصيدة. وقد حَدّ شاعرا الأوروغواي، خوسي أنريكي رودوة كارلوس ریلیس، نشاطهما الابداعي في النثر. کتب ریلیس «ساحر شبیلیة» و هي رواية جد رفيعة رغم التكلف البين فيها. لكن الرجل الذي أبحر طويلاً بين النثر والشعر هو ليوبولدو لوغونيس. فمساره الإبداعي لا يمكن فصله عن الحداثة رغم أن أعماله تتجاوز بكثير حدود هذا التيار.
لقد قلت يوماً إن عبقرية لوغونيس كعبقرية جويس، وكلوديل، وكيفيدو كانت دائما عبقرية الكلمة. لا توجد صفحة واحدة من الصفحات التي لا تحصى والتي كتبها تستغني عن القراءة بصوت مرتفع. إن تعامل لوغونيس الأدبي غريب جدا. قلة هم كتاب اللغة الأسبانية الذين اشتغلوا مثله على كل صفحة. حتى معجمه المحتلط الساذج يتيح لنا التعرف على جرأته التي تلبي نداء طموحه إلى الإمساك بالكلمات. إن عمل لوغونيس مغامرة كبرى في اللغة الأسبانية. لقد أبهرنا. وكلنا نكتب بتأثير منه.
– ما هو إرث الحداثة
بفضل الحداثة تجاوزت الآداب الأسبانية الحدود والحواجز الجغرافية. وهي تشكل الآن كلاً يمثل أمريكا اللاتينية أكثر من أي بلد بصفة خاصة. أعتقد أننا لحسن حظنا نرث هذا الفكر.
عن أوسكار وايلد
– هلاً تحدثنا قليلاً عن أوسكار وايلد ؟
قبل زمن قليل نصحت أحد أصدقائي الذي كان يكتب كتاباً عن وايلد بألا يتوقف عند وقائع حياته التي نعرفها جميعاً وأن يحصر تأملاته في أعماله، وهي أهم بكثير من حياته. قدر وايلد مأساوي. و أنا متأكد أنه قاوم بكل ما كان يملك من قوة فكرة القدر المأساوي. وأكبر دليل على ذلك أعماله. يقول روبيرت لويس ستيفنسون أن ثمة ميزة أدبية بدونها تفقد المزایا الاخری قیمتها : السحر. وکان لوایلد منه الکثیر. خصومه يقولون إنه كل ما لديه. وأرى أنه أمر أساسي. كلما قرأنا وايلد يخامرنا انطباع أنه يستمر في الحديث إلينا وفي إبهارنا. ومن الغريب أن نفكر أنه توفى سنة 1900 ؛ إذ يعترينا إحساس بأنه توقف اللحظة فقط عن التحدث إلينا. ولعل ذلك معيار كل ما هو جيد: أن يكون دائماً حديثاً.
– هل تم الحكم علی عمل وایلد بشکل صحیح ؟
نعم لكن بشكل نسبي. أعتقد أنه من الخطأ أن نحصر إعجابنا في أسطورة «سجن ريدنغ». هذه القصيدة في نظري أخطأت نغمتها. تتحدث لنا عن جندي إنجليزي حكم عليه بالإعدام شنقا لأنه قتل حبيبته، لكن الاستعارات التي استعملت لا تعكس هذه الشخصية. تتحدث عن الغطاء الأزرق الذي يسمّيه السجناء السماء، وعن السحب ذات الأشرعة الفضية. كل ذلك غريب عن صورة الجندي. إنها صور تصلح للديكور و تطابق وایلد نفسه لا شخصیته. خطأ کهذا لن یرتکبه کیبلیغ آبداً. سيتحول إلى جندي ولن يخدثنا عن الأشرعة الفضية. إنها مجرد تفاصيل للزينة.
– ما هي إذن أعمال وايلد التي تتحدى الزمن ؟
هزلیاته، و قبلها «عن أهمية أن تكون مثابراً» التي أضعها في المرتبة الأولى. وقد أصبح المسرح في القرن التاسع عشر نوعا تابعا في بلد شکسبیر، و مارلو، وبن جونسون. وایلد في مسرحیة «عن آهمیة آن تكون مثابراً، أنتج عملاً خالياً من العاطفوية رغم كونه عملاً عبثياً وهو الذي انصاع في مسرحيات أخرى للحبكة العاطفية التي كان يعرف كيف یبرع فیها بواسطة جمل فیها من المهارة الکثیر. ویتجلی النهج العاطفي الذي سلكه ويلد في تأثيره على المسرح الإنجليزي في تلك الفترة. إلا أن وایلد ساهم بهذه السرحیة في تغییر ذالک المناخ.
ثم جاء بعده شو، وإبسن، اللذان فتحا مجال الصراحة والحرية. إن مسرحية «عن أهمية أن تكون مثابرا» كالشامبانيا التي هي أكثر من مشروب : إنها احتفال. ومسرحية وايلد أكثر من عمل مسرحي. إنها لحظة سعادة.
– و المكانة التي تحتلها رواية «صورة دوريان غراي» ؟
لعلها تحتل المكانة الأولى خطأ. إنها تقليد للكتابة – الزخرفة بقدر قليل من العفویة في الد کتور جیکیل و مستر هاید لستفنسون. حیث نجد فكرة الازدواجية. وقد صدرت رواية ستفنسون بعشر سنوات قبل رواية وايلد.
– إن قصة ويليام ويلسون لبو تتحدث أيضاً عن تيمة البديل.
قد يكون هذا النص – وهو أقدم – أثر في ستفنسون، إن فكرة البديل قديمة وقد أغرتني مرارا وتناولتها في قصة «الآخر»، وصورة شخصية وايلد التي تحتفظ بشبابها بينما تشيخ الصورة المرسومة فكرة غريبة. وفي الفصل الأخير عندما يمزق دوريان غراي صورته أتى وايلد بإضافة واقعية مهمة ؛ إذ يرى الخدم اللوحة الممزقة وجثة شخص مجهول تعرفوا عليه بثيابه وخواتمه.
– والشعر يحتل حيزاً مهماً في أعمال وايلد.
أعتقد أن أفضل قصائده هي «أبو الهول» وهي قصيدة حافلة بالبديع. إلا أنه لم يكن مضطرا لمقصد آخر، فوايلد أستاذ في البديع. وعندما يقوم بالزج بفصول بيانية في الصورة يسيء إلى بنية الرواية. لكن قصيدة «أبو الهول» مؤسسة برمتها على عناصر البديع. إنها قصيدة موسيقية وبصرية. ويتوفر وايلد على حس تلقائي في الإيقاع، إذ لا يوجد في إبداعه الشعري بيت واحد تجريبي.
– و معجمه بسيط جدا ..
أنصح من يريد أن يتعلم الإنجليزية أن يبدأ بقراءة أعمال وايلد، كما هو بالنسبة لقائد هاينز الأولى لمن يريد أن يدرس الألمانية، و هي قصائد في غاية البساطة. و كلمات وايلد تتكون أصلا من الجذور اللاتينية تصعب على الإنجليز و تسهل علينا نحن.
– ما هو الدور الذي لعبته أعماله في إنجلترا ؟
إنها شبه منسية رغم شهرته في أنحاء أخرى من العالم. وقد حدث نفس الامر بالنسبة لادغار آلن بو في آمریکا، الذي ولد من جدید کشاعر بفضل بودلیر و مالارمي. وفي آمریکا نحکم علی قصائد بولا علی قصاصه، في حين أن قصصه هي أحسن ما كتب. إن «الغراب» في الحقيقة غراب محنط. لم يسع بو إلى كتابة قصيدة عظيمة بل إلى عمل يجعله ذائع الصيت. وقد نجح في ذلك. وبالنسبة لوايلد فالجمالية تكمن في الحوار.. إنه مدهش.
– هل کان وایلد عبقریاً ؟
لست أدري. المؤكد أنه كان شخصاً رفيع المستوى. وأعتقد أنه كان أيضاً بريئا. فقد قرأت وأعدت سیرته التي کتبها هسکیث بیرسون وهي أفضل ما كتب عنه في اعتقادي. يلح بيرسون على كون وايلد طائشا. وأعتقد أنه كان ثاقب الذهن وكان يحب المقامرة. وكان ذهنه سيمارس نفس الحدة في أي حركة نشط فيها، كالتكعيبية والمستقبلية والانطباعية، ودائما بابتسامة مرتسمة على شفتيه. وهو ما يميزه عن الشعراء الآخرين الأكبر منه والذين ريما كانوا أساتذة له كمالارميه.
– هل كان حقاً مثقفاً ؟
بالتأكيد. فقد قرأ كثيراً. كان يعرف اليونانية واللاتينية ودرس الأدب القديم عبر النصوص. كان يتكلم الفرنسية كما يتكلم الإنجليزية. وكان يخفي معلوماته تواضعاً. كما كان يحب أن يبدو متهوراً في حين أنه لم يكن كذلك. ونجد في أعماله أفكاراً في غاية العمق كان يلقيها بشكل عابر وتبدو سطحية. لكنها لم تكن كذلك. كتلك الفكرة الخارقة للعادة التي قرأتها في إحدى صفحات كتاب لا أذكره «إن الإنسان في كل لحظة من حياته كل ما كان وكل ما سيكون». إنها فكرة غريبة جداً ألقيت بشکل عابر. وقد قال هيراقليطس فإن طبع الإنسان قدره، وهو ما يعني نفس ما قاله وايلد لكن بشكل أقل إثارة. كان وايلد كاتبا عظيما ومثقفا وعلى قدر كبير من الموهبة. لقد ترك لنا صورة ساحرة. صورة شخص متأنق كان عليه دون أن يعلم أن يتحمل قدراً مأساويا دون أن يؤدي ذلك إلى نسف صورته أو محو السحر الذي تركه لنا.
عن كيبلنغ
– انت معجب کبیر بکیبلیغ ودافعت عنه دائماً ضد الذین یحاکمونه بسبب مواقفه السياسية.
یبد ولي من غیر العدل آن نحکم علی کیبلانغ بسبب آرائه حول الإمبراطورية البريطانية. إن كيبلنغ أحد الكتاب الأكثر عبقرية في الأدب العالمی.
أعتقد أن ولعه بالإمبراطورية البريطانية يمكن تفسيره إذا نحن اعتبرنا أنه كان يرى فيها امتداداً للإمبراطورية الرومانية. إن روما وأنكلترا بالنسبة له كانتا متساويتين. نرى ذلك في أعماله. ففي «الكنيسة التي كانت في إثيوبيا، يصل جندي روماني إلى هذا البلد، وفي الحكاية يظهر القديس بيير والقديس بول لكننا نشعر أن هذا الجندي الروماني هو أيضا موظف بریطاني في الهند. ویجب آن نذکر آن کیبلانغ لم یکن یری الامبراطوریة البريطانية كمؤسسة يطبعها الجشع، بل كنوع من الواجب. وكان يشعر بولع کبیر نجاه ذللث.
– هل يحق لنا أن نبرر ولعاً مبالغاً فيه لدى شخص عبقري ككيبلنغ ؟
أعتقد ذلك. لقد جلبت الإمبراطورية البريطانية الكثير على غرار الإمبراطوريات كلها. ودون أن نذهب بعيداً. نحن نتيجة للإمبراطورية الرومانية ولغتنا تنحدر من اللاتينية لدرجة أفهم معها جيدا عواطف إن كيبلنغ كاتب جد معقد. هناك إحدى قصصه مثلاً «باب المائة حزن» وتدور أجداثها في محل لتدخين الأفيون. قرأتها مائة مرة في حياتي، وعندما تليت علي في المرة الأخيرة اكتشفت شيئا لم ألاحظه من قبل. يقص الشخص الذي يدخن الأفيون قصته وقصة صاحب محل التدخين. بعد مائة قراءة لاحظت أن السارد الذي قيل لنا إنه مات أسابيع قلیلة بعد سرده للقصة یخلط بین ذکریاته وذکریات صاحب محل التدخين. إنه أحد التفاصيل الأساسية ولم أنتبه إليه قط. ان کیبلنغ یتوفر على أسلوب حقيقي. وكتابته تدرك نوعا من الكمال نفاجأ بعد عدة قراءات لقصصه باکتشاف معناها الحقیقي. حكایاته تبدو سهلة لکنها جد معقدة. معقدة كالواقع. وكان يفعل كل ما في وسعه لتكون كتاباته سهلة. علی عکس عدد من کتاب زماننا الذين يسعون إلى التعقيد في حين أن كتاباتهم مفرطة البساطة.
– ما هو أهم ما يثير في أعماله ؟
موهبته السردية. جولة الشرق والغرب تروي لنا حكاية معقدة – الشخصيتان الرئيسيتان، الموظف البرييطاني والسارق الافغاني شخصیتان معقدتان ـ وينجز كيبلنغ عاملا عظيما عبر استعماله للاستعارة والإيقاع. ويسعى إلى أن تكون عملية التلقي تلقائية، وذلك غير ممكن لأنه هو نتيجة عمل مهم.
في سيرته الذاتية يُنقص كيبلنغ من قيمة كل ما كتب. یقول ان «کیم» کتاب بیکارسکي خال من الح بکة. و یقول ان والدته کانت دائما تلومه علی عدم معرفته لخلق الحبكة. لا أتفق على ذلك. إن كيبلنغ بارع في نسج الحبكات الخارقة للعادة. يتحدث عن نفسه دائما بتواضع جم ويظلم نفسه بشكل نلقائي. ويقول إنه مدين للآخرين وللحظ، وإن القدر منحه أوراقاً فلعبها وهذا غير صحيح، فالقدر يمنح الأوراق للجميع. ولا قيمة للاوراق بدون کیبلانغ. ولكيلبنغ ميزة أخرى لا أعتقد أن أحداً أشار إليها. لقد كان أستاذاً في كل الأشكال الشعرية. وجرب كل أنواع الكتابة العروضية وكتب الشعر الحر وأبدع أشكالا لم يُسبق إليها ولا نجد في عمله أنشودة واحدة. في أنكلترا مارس هذا النوع من الشعر شعراء كشكسبير وملتون، اما کیبلنغ فقد تفادی ذللث لأنه كان يرى من الادعاء موضعة نفسه في مكانة مماثلة لهؤلاء. وهناك سبب آخر أكثر مصداقية : كيبلنغ أراد أن يكون شاعرا شعبيا ونظمه للأنشودات يخرجه من هذه الخانة.
عن الأدب البوليسي
– اهتممتم دائماً بالكتابة البوليسية. ومع أدولفو بيوي كازاريس كتبتم قصصاً وأسستم سلسلة مختصة والحلقة السابعة،. لماذا هذا العنوان ؟
كان لا بد لنا من عنوان. واقترحت أن نبحث عن حلقة أهل العنف في جحيم دانتي. فكانت الحلقة السابعة. كان الاختيار موفقاً. لم يكن بإمكاننا استعمال الحلقة السادسة أو الثامنة. ولا حتى الرابعة. فكانت السابعة تفي بالمطلوب. وهكذا سمّينا السلسلة انطلاقا من هذا الرقم.
– ما هو أصل الرواية البوليسية في نظركم ؟
قبل سنوات جری سجال بین روجیه کایوا وییني حول هذا الوضوع. کنت أنه يجب أن نتصرف بشكل يجعل مخاطبنا محقا. إلا أني في ذلك الوقت لم أكن يابانياً بما فيه الكفاية. ونعتت كايوا بقليل من اللياقة وربما بنوع من القسوة. كنت متمسكا بأن القصة البوليسية من صنع إدغار آلن بو الذي كتب «جريمة قتل في زقاق مورج» و«الرسالة المسروقة» و«الجعل الذهبي»ضمن أعمال أخرى خالدة. في هذه الأعمال نجد كل مكونات ما اصطلح عليه بالأدب البوليسي. وقد أضاف بو، علاوة على ذلك، حکایة الشخص الذي يحل لغز الجريمة بوسائل تعتمد المنطق بناء على التفكير وعلى الحكي اعتمادا على صديق للمحقق يكون أقل ذكاء منه. كل ذلك لا علاقة له بالواقع، لأن حل لغز الجريمة يأتي عبر تحقیق روتیني آو عبر تبليغ أو بواسطة الصدفة، لا اعتمادا على التحليل المنطقي. ودوبان شخصية حضرية تفكر في الجريمة وتتوصل إلى الحل. وقد ورث هذا المنهج شیرلوک هولس، وواتسون، والاب براون لتشستیرتون، وأصبح بذلك مشهورا.
– ألم يوظف بو أكبر قسط من عبقريته في هذه النصوص القصيرة ؟
إنه أدرك الكمال بهذه النصوص أكثر منه في نوع آخر كتبه، شعراً أو نقداً. أعتقد أن هذه القصص البوليسية هي التي منحته مكانته الحالية في الأدب. لقد أعطى بولهذا تعريفا نظريا وطوره على مستوى الممارسة، فبو هو المنطلق. وقد رأيت دائما أن بوكان يعي تماما أن القصة البوليسية أصلها غرائبي. والدليل على ذلك أنه كان يكتب في أمريكا والمحقق في قصصه فرنسي : والأحداث تدور في باريس. أي في مكان بعيد. لقد كان يعلم علم اليقين أنه إذا موضع الأحداث في نيويورك سيسعى الناس إلى البحث عن نقط التوافق. وباختياره مكاناً بعيداً تبدو الأحداث بعيدة وغير واقعية. ذاك ما يحثني على التفكير أن الرواية البوليسية نوع غرائبي.
و بو أيضا هو من أنتج فكرة جديدة. الشيء لا يُرى من كثرة ما يكون ظاهرا للعيان. في «الرسالة المسروقة، يقدم لنا بو عميد شرطة سرقت منه رسالة في غاية الأهمية. تفتش الشرطة البيت بدقة متناهية وتدقق عبر المجهر وتفتش ما بين البلاط وفي أغلفة الكتب ولا تجد شيئاً. ثم يأتي آوغیست دوبان ویکتشف الرسالة موضوعة علی المدخنة. کان الكان الذي خبئت فيه الرسالة ظاهراً جداً لدرجة لم يرها معها أحد.
إن بوهو الصانع الماهر والأستاذ الذي لا ينازعه أحد في أستاذيته للأدب البوليسي. كانت لديه أسباب كثيرة لتنمية هذا النوع من الأدب، إضافة إلى مواهبه التي هيأته لذلك. في تلك الفترة كانت سوق هذا الإنتاج مزدهرة. وكانت المجلات تحفل بها. وكان بو محرراً في مجلة فسعى إلى ارضاء اجمهور عبر نشره لحکایات قصیرة جیدة کان یکتابها بنفسه فی أغلب الوقت. عندما برز اسم بوكانت القصة القصيرة مزدهرة في أمريكا الشمالية بفضل واشنطن إرفنغ، وهاوثورن، وهذا ما سمح لبو بالارتقاء بهذه الصيغة إلى الكمال.
– لنعد الی السجال بینکم وروجي کایوا. ماذا کانت وجهة نظره ؟
كان كايوا يرى أن الرواية البوليسية وجدت قبل بو. فالجاسوس أو القاضي في عهد نابليون الأول كانا بالنسبة له شخصيتين من النوع البوليسي. ولا زلت أعتقد أن ذلك خطأ، خاصة أن النوع البوليسي لا علاقة له مع الشرطة. إنه أدب غريب عن هذا النوع من اليوميات. ولا علاقة لوجود الجاسوس والشرطة قبل زمن بو بالموضوع. لقد أثار ذلك سجالا بيني وبين روجي كايوا. بعد ذلك أفحمني كايوا بكرمه حين أخذ كتبي ضمن مجموعته ثم صوت لصالحي في جائزة الفورمنتور. لقد نسينا هذا الخصام الذي لا أهمية له معا، وأعتقد أن رأيي في دور بو قد تم قبوله.
– هل تؤمنون بشخصية تشسترتون ؟
صحيح أعتبر نفسي أحد أتباعه. كان تشسيترتون كاتباً عظيماً في كل الأنواع التي مارس الكتابة فيها. كان كاثوليكياً ضخم الجثة. وهذا ما سمح لبرنارد شوالذي كان يحب الدعابة بقول إن الكنيسة الكاثوليكية تصبح مرکبا مجرد آن یصعد الیها تشسترتون. کان آیضا شاعرا ملحمیا کما تشهد بذلك ملحمة «نزهة الحصان الأبيض». يبدو أن استعاراته من صنع هوغو. فهي توحي بواقع غرائبي. وفي احدی روایاته التي أراها تستحق الإعجاب (المسمی خمیسس)، حيث كل أعضاء جمعية فوضوية من رجال الشرطة ينما الرئيس نوع من الآلهة، أي أن الله في هذا العمل هو أيضاً الشيطان.
– من بين قصصكم البوليسية، ما هي تلك التي تفضلون ؟
لا هناك قصة لا تثير استيائى اسمها «الحديقة ذات السبل المتشعبة». وقد شعرت بفخر كبير عندما فازت هذه القصة بجائزة المجلة الأمريكية ميستري ماغازين. وكنت فخوراً لأنهم أخذوني مأخذ الجد، أنا الكاتب البسيط من ريو دي لا بلاتا.
– و حکایات بوستوس دومیك ؟
لا أحب أسلوبها الباروكي. ولم يكن من الممكن كتابتها بطريقة أخرى = كنت أنا وبيوي كازاريس نشتغل وأصبحنا بعد مدة قصيرة شخصية اسمها بوستوس دومیک آو سواریس لینش. استحوذت هذه الشخصية على الحبكة وقضت عليها حيث حشتها بمواقف مبالغ فيها. لم نكن نملك شيئا حيال هذا الأمر. بل كانت هناك شخصية ثالثة تتحكم ولم نكن نحن سوي مسحررین خانعین مستسلمین. لا أحب هذه الحکایات مطلقا، وأعتقد أن بيوي يشاطرني الرأي.
عن الترجمة
– لديكم تجربة كبيرة في مجال الترجمة. ما هي في نظركم الترجمة الجيدة ؟
حالياً تُمنح الأفضلية للترجمة الحرفية. ومفهوم الترجمة الحرفية ليس أصله أدبيا. أرى أن لهذا المفهوم أصلان. الأول قانوني، وهو ما نراه في العقود والوثائق والمعاهدات التي تتطلب نقلاً حرفياً. لم يكن هذا المشكل مطروحا في القديم حيث كانت هناك لغة ذائعة الصيت اسمها اللاتينية. الأصل الثاني، وهو الأهم، ديني. والمثل يمنحنا إياه الإنجيل. نصوص متعددة المصادر ومؤلفون من عصور مختلفة يبدو أنها أمليت على نساخ مختلفين من طرف الروح القدس. وإذا اعتبرنا القبالة (فلسفة دينية سرية عند أحبار اليهود وبعض نصارى العصر الوسيط)، نرى أن الكلمات لا تؤخذ بعين الاعتبار بل الحروف. وإذا أردنا أن ننقل إلى لغة أخرى هذا النص المقدس الذي لا دور للصدفة فيه، وحيث كل شيء فيه مقصود حتى الحروف. ويرى علماء القبالة في الحروف قيمة رقمية يجب أخذها بعين الاعتبار. إن بداية آية بحرف ألف أو باء ليبس اعتباطا. و على المترجم في إطار ما تمنحه له لغته من إمكانيات أن يسعى إلى الحرفية.
– و ما هي النتيجة التي تمنحنا إياها هذه الطريقة ؟
تمنحنا عملاً صحيحا وفي أغلب الحالات عبارات جميلة جداً. ففي العبرية لا توجد صيغة للتفضيل. وإذا لم أخطئ، من المستحيل أن تقول «الأفضل » بهذه اللغة. في هذه الحالة وجب البحث عن بديل بواسطة عبارة جميلة جداً. فبما أنه من غير الممكن قول الليلة الأحسن، نقول ليلة الليالي. وبدل أن نقول النشيد الأفضل نقول نشيد الإنشاد.
– ومع ذلك فإن لوثر في ترجمته للكتاب المقدس أراد أن يكون الكتاب في متناول إدراك الجميع فعُوض نشيد الإنشاد بالنشيد الأسمى، وهو ما يفيد المعنی ویضیع جمال التعبیر العبري.
نعم. لكن الكتاب المقدس الإنجليزي سعى من جهته إلى الاحتفاظ بقوة التعبير، حيث نقرأ «برج الجبروت» في حين كان لوثر مترجما سيئا عندما استعمل «القلعة المکینة» و هو تعبیر هزیل. ولم یقابل کذللث تعبیر «مریم المشمولة بالإحسان»، وقال عن هذه العبارة إنها توحي بفكرة الوعاء. فكتب عبارة «مريم التي أدركها الإحسان» : وهذا يعني أن الترجمة الحرفية قد تكون أحيانا جميلة جداً، أو على الأقل واضحة.
– ثمة حالات تكون فيها الترجمة الحرفية قابلة للنقاش.
إذا قالت شخصية ما في رواية عادية دعم صباحاً، فلن يكون من الجيد ترجمتها بـ «صباح جيد». ثمة أيضا حالة تكون فيها الترجمة الحرفية جميلة لكن عندما يكون هذا الجمال إضافة لا صلة لها بالأصل.
– هل نستخلص من ذلك أن الترجمة الأكثر حرفية هي الأكثر خيانة ؟
في الشعریعتمد کثیر من الشعراء علی القاموس. والقاموس ینبني علی فرضية جريئة تعتبر أن اللغات تتكون من ألفاظ تتساوى فيما بينها. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك. لكل كلمة دلالتها الإضافية المتميزة لاسيما في الشعر. ولا تعتمد القصيدة فقط على المعنى التجريدي للكلمات، بل على الدلالات الإضافية السحرية. و تصبح الرباعیات للشاعر الفارسي عمر الخيام من القرن الحادي عشر قصيدة إنجليزية بديعة في ترجمة لإدوارد فيتزجيرالد من القرن التاسع عشر. أذكر تعبيراً لتشسترتون قال فيه إنه لم يكن يعرف الفارسية لكن ترجمة فيتزجيرالد كانت جيدة لدرجة أنها كانت أمينة.
– أنتم تنضمون إلى رأي إزرا باوند في ترجمة الشعر. يرى باوند أن الترجمة تساعدنا في الحكم على القصيدة، لكن القصيدة الجيدة غير قابلة للترجمة. فهل على من يترجم القصيدة أن يعيد خلق الشاعر ؟
دون شك. ويجب أن يكون هو أيضاً شاعر. اليوم نترجم الشعر نثراً
وتفقد بذلك القصيدة إيقاعها. والإيقاع في تصوري أساسي في القصيدة وأهم من المعنى التجريدي للكلمات. وأعتقد عموما أن الترجمة الحرفية لها دور ثانوي. إذ تساعد على فهم النص فقط لا غير. ثم إن نشر الكتب بلغتين عمل ناجح لكنه يرغم المترجم على الاحتفاظ ما أمكن بحرفية الترجمة، وربما كان أكثر حرفية من اللازم لأنه يعلم أن القارئ يقارن الأصل بالترجمة. لا أوافق على هذا النهج الذي يسيء حتما إلى المترجم.
– ما هي في نظركم أفضل طريقة لترجمة القصيدة ؟
تلك التي تأخذ بالاعتبار إمكانية العثور على ما قال الشاعر أو ما أراد أن يقوله في اللغة المترجم إليها. وللتوصل إلى ذلك ينبغي ألا نمارس الترجمة الحرفية بل الأدبية، وهو أمر مختلف تماما. يجب أن نعلم أن لكل لغة إمكانيات خاصة بها، ولاإمكانيات خاصة بها أيضا لا تتيحها الترجمة.
– إذن تبقى الترجمة الحرفية غريبة عن الأدب ؟
نعم. لاسيما في الشعر. وفي حالة النثر لست متأكداً. إن كل كلمة إذا أخذناها بمفردها في الرواية تقل أهمية عنها في القصيدة. رغم أن الكلمة التي يتم اختيارها لها في عدة مناسبات نفس الأهمية في الشعر كما في النثر. وفي الواقع ليست هناك حدود تسمح بمعرفة اللحظة التي تجعلنا نؤكد أن نوعا من النثر ليس بالفعل شعرا. إن النثر الجيد قد يصبح شعرا. خاصة إذا تبنينا مبدأ انبعاث اللغة من الإيقاع : في هذه الحالة إن كل أشكال التعبير، بما فيها الإكثر تجريداً والأكثر تعليمية، إيقاع. كيف إذن نميز بين النثر والشعر ؟ أُلِّح في هذه النقطة على أن الترجمات الأدبية لیست أدبا. صحیح أن هناك ترجمات غیر معقولة، کتلك التي ینتجها صديقي سوتو إي كالفو. ترجمات تبدو في غالب الأحيان مفتعلة بحذق.
– يقول شو إن كل عمل ذهني هو عمل فيه دعابة، أكان ذلك عن وعي أم عن غير وعي.
لم أكن أعرف أن شو قال ذلك. وأعطيه الحق مطلقاً. فالعمل الأدبي مع الزمن يصبح نوعا من الدعابة. وفي أعمال جون دون مثلا، كان ذلك مقصودا، وفي أعمال بالتازار غراسیان جاء عن غیر وعي.
عن الزمن
– ماذا لو تطرقنا للحديث عن موضوع الزمن الحاضر بشكل قوي في اعمالكم ؟
نيتشه الذي كان انفعالياً وميّالاً إلى الأحكام النهائية لم يكن يتحمل أن نتحدث بنفس الطريقة عن غوثه وعن شيلر. ويتبادر إلى ذهني أن سلوكه ذاك يمكن أن ينطبق على المكان والزمان. من المجحف أن نموضع المكان والزمان في مستوى واحد. فإذا استطعنا أن نضع المكان بين قوسين في تفكيرنا فمن المستحيل إلغاء الزمن. لنتصور أن العالم المرئي يختفي وأننا لم نعد نملك سوى حاسة واحدة بدل الحواس الخمس. قد يكون السمع هذه الحاسة. عندها يختفي محيطنا. تختفي المشاهد الطبيعية والنجوم والسماء.. وإذا اختفت حاسة اللمس، سنجهل الناعم والخشن والفظ. وإذا فقدنا حاسة الذوق والشم لا إحساس يصل إلى اللسان أو الأنف.
– سنصبح في عالم يختفي فيه المكان إذن ؟
نعم. في عالم كهذا لن يكون التواصل سوى بالقول، ولم لا یكون بالموسيقى. عالم لا شيء يتم فيه دون أن يكون وعيا أو موسيقى. قد يقول قائل معترضا إن الموسيقى تتطلب آلات. إلا أنى أرى أنه من العبث التفكير على هذه الشاكلة. فالآلات ضرورية لإنتاج الموسيقى. أما إذا فكرنا في هذا المقطوعة أو تلك فنحن نستطيع أن نتصورها دون آلات، دون کمان ودون بیانو ودون آرغن. وقد قال شوبنهاور لیست الوسیقی شيئاً يضاف إلى العالم. إنها عالم قائم بذاته.
– هذا العالم الذي تتصوره مكوناً من الوعي والموسيقى.. هل يمكنه الاستغناء عن الزمن ؟
لا. يستحيل علينا تصوره في غياب الزمن. إن الزمن هو المشكل الأساسي للوجود. الزمان تسلسل. أن توجد معناه أن تكون الزمن ونحن الزمن. من المستحيل أن نضع الزمن بين قوسين. إن وعينا يمر باستمرار من حالة إلى أخرى، وهذا هو الزمن. التواتر.
– إن الزمن عند برغسون هو المشكل الأساسي للميتافيزيقا.
إذا أستطعنا حل مشكل الزمن سنكون قد عثرنا على حل لكل المشاكل. لست متأكداً أننا بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الدرس والتأمل اللذين شغلا الفلسفة وأرّقا الفلاسفة سنكون قد توصلنا إلى أي تقدم في حل هذا المشكل الأساسي. أؤكد أننا سنظل دائما نشعر بنفس الحيرة التي كان يحس بها قبلنا وبشكل حاد هيراقليطس : “أنت لن تنزل النهر الواحد مرتين”. في المقام الأول مياه النهر تتدفق باستمرار ولا تستريح أبداً، ثم إننا نحن أنفسنا نهر. نهر يتغير باستمرار. نحن أيضا نسيل، وهذا ما يثير فينا رعبا مقدسا.
– لماذا لا نستطیع محاصرة الزمن ؟ هل هو علی حد تعبیر کیفیدو ذاك العدو الذي يقتل هاربا ؟
لا شك أن الزمن مصنوع من الذاكرة. ونحن كأفراد مصنوعون في قسط کبیر منا من الذاکرة، من ذاکراتنا البئیسة الضعيفة. الذاكرة في جزء كبير منها مصنوعة من النسيان. أذكر البيت الرائع لبوالو “لنسرع. فالزمن یرکضی ویجرنا معه /اللحظة التي أتحدث فيها أصبحت بعيدة عني” إن حاضري أو ما كان حاضري قد أصبح الآن ماضيا.
– حاول الفلاسفة حل مشكل الزمن…
إن أقدم حل أذكره هو ما جاء على لسان أفلاطون، وحاول أفلوطين تبنيه بعده، ثم ردده بعدهما القديس أوغسطين. حاول أفلاطون حل مشكل الزمن بابتكار أحد أجمل الإبداعات البشرية : الأبد. أتحدث عن الابتکار البشري لأني لست مؤمنا. والفكر الديني يعطيه تعريفا مختلفا.
– كيف تُعَرف الأبد ؟
الأبد في اعتقادي هو أمس، وأمس الأمس، والأمس الذي قبله على امتداد العصور. أيامنا الماضية وأيام كل البشر الواعي. الأبد هو ما مضى من الزمن. هذا الماضي الذي لا يعرف أحداً ولن يعرف أحداً متى ابتدأ. الأبد أيضا هو هذا الحاضر الذي يحتوينا جميعا ويحتوي كل المدن وكل العوالم وكل الفضاءات. والأبد هو أيضاً الآتي الذي لم يُخلق بعد، ومع ذلك فهو موجود، وقد بدأ يوجد منذ هذه اللحظة.
– أي : أن الأبد، من وجهة النظر الدينية، هو تلك اللحظة التي تتوحد فيها کل آوجه الزمن ؟
نعم. ولإعطاء هذا المفهوم مزيداً من الفسحة يمكننا أن نذكر الحل الأول الذي جاء به أفلاطون. قد يبدو الحل تعسفيا ولا أعتقد أنه كذلك. وأتمنى أن أتوصل إلى البرهنة عليه. يقول على كائنات أخرى لكنه لا يستطيع ذلك داخل أبده، بل عليه أن يقوم به داخل نظام التواتر. يقول أفلاطون إذن إن الزمن صورة متحركة للأبد.
– هل تذكرون تعريف أفلوطين للزمن، وهو الذي كان يحس بمشكل الزمن بشکل عمیق ؟
يقول أفلوطين : هناك ثلاثة أزمنة. وهذه الأزمنة هى الحاضر. أولها هو النظام الحالي أي اللحظة التي أتكلم فيها – أي اللحظة التي تکلمت فیها لأنها أصبحت في عداد الماضي. ثم هناك نظام آخر. هو حاضر الماضي. ما نسميه ذاكرة. وهناك حاضر آخر هو الحاضر الآتي. الذي يمثل ما نصبو إليه، أو ما نخافه في تصورنا.
– ثمة عبارة لویلیام بلیالث تلمسی عن قرب ما ذکرتم.
صحيح. يقول بليك إن الأبد هدية من الزمن. ينبغي أن نحلل هذا القول الحافل بالحكمة. لو منحنا الوجود برمته أكثر من العالم، لو أعطينا الوجود كله دفعة واحدة لمتنا حتما. لفنينا. وكما يقول بليك الزمن هدية لنا من الأبد.
يتيح لنا الأبد معرفة كل التجارب على عالم متواتر. عندنا الليل والنهار. الساعات والسنوات. عندنا الذاكرة والأحاسيس الحالية، وعندنا الآتى الذي لا نزال تجاهل شكله ونخشاه. كل مالدينا يأتينا عبر التواتر. وأضيف : لو أننا حظينا بكل شيء دفعة واحدة لما استطعنا تحمل هذه الشحنة الرهيبة. شحنة وجود الكون برمته. إن الأبد يسمح لنا بالعيش تواترا. يقول شوبنهاور: من حسن حظنا أن حياتنا مقسمة إلى أيام وليال يفصل بينها الحلم. نستيقظ كل صباح. نقضي يومنا. ثم ننام. وبدون الحلم الحياة لا تطاق. لن نكون سادة متعتنا. ربما لن تكون هناك متعة. إن كلية الوجود شيء مستحيل بالنسبة لنا. من حسن حظنا أن الوجود یمنح لنا بالتدریج.
– لم نتحدث بعد عن القديس أوغسطين الذي كان من المفكرين الذين انشغلوا بحل مشکلة الزمن.
نعم. لم ينشغل أحد بالزمن مثلما انشغل به القديس أوغسطين. كان يقول إن روحه تحترق لأنه كان يريد معرفة ما هو الزمن. وكان يطلب ذلك من الله. لم يكن ذلك منه نوعا من الفضول المجاني، لأنه لم يكن يستطيع أن يستمر في الحياة دون معرفة الجواب. كان سؤالا ملحا لديه. السؤال الذي قال عنه برغسون أنه المشكل الأساسي للميتافيزيقا. أقول إنه ليس المشكل الأساسي للميتافيزيقا، بل هو همنا الأساسي ومشكلنا الوحيد. من هو كل واحد منا ؟ من أنا ؟ لن نستطيع أبدا التوصل إلى الجواب. وفي انتظار ذلك نعيش حرقة السؤال، كما قال القديس أوغسطين.