نقد أيديولوجيا السرد الوضعي والوعظ الادبي قراءة في مفهوم “غُشَماء السرد”
نشر الدكتور عبد الله إبراهيم مقالا بعنوان “غُشَماء السرد” المنشور في صحيفة الرياض بجزئين، جاء فيه على مناقشة اهم العوائق التي تواجه تقنيات الكتابة السردية. ربما يعد اشدها فتكا في السرد وعوالمه الأدبية، ظهور بروتوكولات سردية ضاغطة وطارئة في الآن ذاته، لا تجيد الف باء الكتابة السردية الروائية، وقد علل إبراهيم الأسباب الخفية لاستمرار تدفق ظهور هذه الجماعات الى البنية التحتية السلطوية التي تقف خلفهم لتروج لمنتوجهم الادبي والسردي الرديء الصنع والنشأة الركيكة الخادعة. وعلى الرغم من تشديد إبراهيم على خطورة صعود” طبقة البروتوكولات السردية الجديدة” الا انه كان متفائلا بزوال هؤلاء واختفائهم ونسيانهم، وذلك لأنهم غير جديرين بدخول جمهورية افلاطون السردية، فأذا كانت اكاديمية افلاطون قد كُتب عليها من قبل لا يدخل علينا من لم يكن رياضيا، فأن وظيفتها هذه ستتحول مع رؤية إبراهيم الجديدة الى أخرى تخدم جمهورية افلاطون السردية التي نُحت على أكاديميتها:
“لا يدخل علينا من لم يتقن صنعة ومهارة السرد”. من هنا، فأن مقال د. إبراهيم، يُعيد لذاكرتنا “المتخيل الافلاطوني السردي” بالطبع ليس الفلسفي منه، بل الأيديولوجي القائم والمؤسس على مصادرة وتهميش الغرباء الذين لا ينتمون الى جمهوريته ولا يطبقون مبادئها ولا يتبعون حكمة الحكماء القدماء في إدارة حياتهم وشؤون دولتهم وطاعة ساستهم. ربما لهذا السبب رأى إبراهيم ان “الزمن السردي” لهؤلاء الطارئين على مملكة السرد المحمية حماية طبيعية وميتافيزيقية، قصير جدا لأنه في نهاية المطاف:
((سيتوارى غُشَماء السرد، لأنهم غير جديرين بمباهج جمهورية السرد، وبمسرّاتها المدهشة، وقد تواروا غير مرة من قبل، فلا نكاد نعثر عليهم حينما نطّلع على تاريخ الآداب السردية، فوجودهم مقترن بحياتهم، وسلطتهم، ولا مقام لهم فيها لأنهم دخلاء، متطفلين، فتلفظهم أمواجها إلى الشواطئ، وما تلبث أن تطمرهم تحت رمالها، وتكتمهم كتما، فلا تقبل بغير شركاء المهارة، والدراية، والذوق الرفيع. وحدث كثيرا أن صدّت جمهورية السرد الغشماء الأراذل، وأسقطت عنهم الشرعية التي حاولوا انتزاعها زورا حينما غُضّ البصر عن هذا أو ذاك منهم)). (عبد الله إبراهيم، عودة إلى غُشَماء السرد، صحيفة الرياض، الأول من أكتوبر 2016)
ويبدو ان هناك ثمة تلازم حتمي في قصة استعادة المتخيل الافلاطوني السردي لدى د. إبراهيم وبين صراع افلاطون التاريخي مع الفلسفة السفسطائية الذي انتهى بطرد السفسطائيين خارج جمهورية افلاطون. لان “بلاغة الفكر السفسطائي الراديكالية” استطاعت ان تواجه البرادايم الافلاطوني الرجعي المسيطر آنذاك، من خلال تفكيك سرديات البلاغة الافلاطونية الكبرى التي تٌنتج / وتعيد انتاج “كائنات غُشَماء” لا وجود لها الا في إتباع سنن القدماء وتطبيق معاييرهم بطريقة ارثوذكسية. وهذا يعني ان واقع الصراع إنما كان ضد سلطة اللغة / ولغة السلطة التي يجب ان تبقى صلاحياتها اللسانية والمنطقية سارية المفعول، من اجل استمرار هيمنة “جمهورية الغُشَماء الافلاطونية” التي تفرض أشكالا تعليمية وبيداغوجية محددة تكرس للعبودية الذهنية والجسدية في إتباع غُشَماوي لقوانين الجمهورية الاستبدادية. وهو ما سيؤدي في النهاية الى سيادة “بلاغة غُشَماوية مطلقة” ((متوجهة للعمال والى الناس العاديين البسطاء. فابتكار السرديات الافلاطونية الميثولوجية لم يكن يرمي، في واقع الأمر، الى مساعدتهم على التفكير لأنهم موجودون في هذه الحياة للعيش فيها وحسب. هكذا، تصبح الأسطورة عاملا أساسيا يساعد على العيش، لطالما ساهمت في اخماد نار الغيرة مثلا عند عامة الناس الأعلى منهم مقاما ومنزلة. إنها ابعد بكثير من أن تساعدنا على التفكير، أنها تعمل على صرفنا عن التفكير وتدفع بالإنسان نحو العيش بخضوع وامان.
(Alexis Philonenko: Leçons Platoniciennes, Les belles lettres,Paris,1997,p. 67)
فالإشكالية الأساسية ابعد بكثير من ابتكار أساليب لغوية جديدة تتعالى وتتجاوز أساليب لغة الكبار، بل لا يمكن تحديدها ضمن منطق الجهل وقلة المعرفة بلغة واسلوبيات الكتابة السردية:
((غير أن الجهل بلغة الكتابة السردية، وتسفيه ذوي الأساليب الرفيعة، والسقوط في العامية، لا يتسق مع طبيعة الأدب ووظيفته. ووصم الكتاب المراعين للمعايير السليمة في الكتابة بذوي “البلاغة القاتلة” يخفي جهلا مروّعا بوظيفة اللغة في سياق الخطاب، وهي تحتاج إلى مهارة، وذوق، وخبرة، فقد انساق أغلب كتّاب الرواية العربية إلى التفكير العامي، وامتثلوا لشروطه في بناء أفكارهم، وأفكار شخصياتهم، فصار من النادر أن يكتب أحدهم بلغة خالية من العيوب اللفظية، والنحوية، والإملائية، والأسلوبية لظنّه أن ذلك يتعارض مع وعيه بالعالم، فوقع انهيار شمل كلا من نظام التفكير وطريقة التعبير عنه، فساد الإنشاء الركيك القائم على نزوع عاطفي هزيل، وشاعت الرداءة المبتذلة التي تحطّ من الموضوع، وتداعى الصوغ الأدبي حينما عمّت الألفاظ الغثّة، وبالإجمال، فقد حلّ الابتذال محل الاجلال. وما عاد أحد يهتم بذلك النسيج اللغوي المتين في الكتابة، ومادام الانحدار قد شمل الكاتب وشخصياته فلا مهرب من مواصلة الانحدار، وتلك ذريعة فاسدة تقوم على جهل مركّب ببناء الشخصيات، وطريقة التعبير عن أفكارها، ووظيفة الكتابة السردية التي لا يراد بها محاكاة الواقع، ولا نسخه بكتابة تعكسه، بل تتولّى تمثيل بعض قيمه وأخلاقياته)). (د. عبد الله إبراهيم، غُشَماء السرد، صحيفة الرياض، الثالث من سبتمر2016)
وهنا علينا طرح بعض الاسئلة الضرورية في السياق أعلاه: هل ان مفاهيم اللغة والبلاغة والكتابة محددة فقط في عوالم السرد؟ وهل ان مفهوم السرد منفصل عن الحركة التاريخية والثقافية للوجود الإنساني؟ وهل ان لتقنيات النحو ومنطق اللغة وجودا مثاليا / افلاطونيا مجردا ومتعاليا عن الثقافة الاجتماعية واطرها الأيديولوجية؟ وهل يمكن اختزال مفهوم السرد ضمن المدونات الروائية؛ الأدبية والشعرية فحسب؟ ألا يعبر هذا المفهوم عن رؤية ضيقة لمفاهيم السرد الراديكالية والنقدية الجديدة؟ وهل كان الكاتب على دراية بالسياق الارثوذكسي لمفهوم السرد الذي استعمله في نصه، ام انه يغض النظر ايضا؟ وإذا كان الكاتب قد انتقد “بروتوكولات السرد الجديدة ” لما شخصه فيها من ضيق الأفق والجهل بتقنيات الكتابة واصولها الصحيحة، فهل كان الكاتب متعدد المناهج ورحب الافاق النقدية عندما استعمل مفهوم السرد الذي طوعه بطريقة افلاطونية لتمرير رؤيته الأيديولوجية الخاصة؟
الخطاب الغُشَماوي … بين السرد الأيديولوجي وايديولوجيا السرد
يتضح مما سبق ذكره، ان مفهوم السرد الذي ظهر في مقال د. إبراهيم قد شابه الكثير من الغموض والالتباس المنهجي والنظري والاصطلاحي. فقد جرى عرض هذا المفهوم وعلى مدار الجزئين للمقال، ضمن عوالم الادب وتقنيات كتابة الرواية والقصة وما شابه، مما أدى الى تضييقه وتحديده بطريقة “أرثوذوكسية” مؤدلجة كان من بين آثارها الوخيمة هو تسطيح المفاهيم النظرية المستعملة في المقال برمتها، لأنها سوف تُحدد هي الأخرى ضمن قوانين ومبادئ وقواعد كتابة الرواية على طريقة افلاطون السردية.
لكن لماذا لجأ د. إبراهيم الى إتباع سياسة اصطلاحية ضيقة في تعاطيه مع مفهوم السرد بطريقة أحادية؟ هل كان يريد ان يقول لنا ان مشروع السردية العربية ذو اتجاه احادي؟ وهل يريد ان يوصلنا الى قناعة “غُشَماوية” تجعلنا نصدق ببساطة ان السرد والادب واللغة يعبران عن هوية واحدة ومتجانسة في كينونة النص الادبي المكتوب؟ ولماذا تعامل د. إبراهيم مع مفاهيم السرد بوصفها مرتبطة ارتباطا حتميا بمتون الرواية وتاريخ تقنياتها اللغوية والاسلوبية؟ ولماذا نراه قد نأى بنفسه بعيدا عن ربط السرد باختصاصه الدقيق وهو الدراسات الثقافية، فهل يوجد سرد بمعزل عن الدراسات الثقافية ونظرية الثقافة والنقد الادبي؟
هذه الاسئلة وغيرها الكثير، تقفز الى مخيلتك لحظة قراءة مقال د. عبدا لله إبراهيم، الذي يدعونا الى ان نكون غُشَماء لتصديق سردياته الكبرى التي تتجاوز سرديات الواقع الصغرى المعقد والمتداخل فيه اللغوي والسلطوي والسردي والثقافي بصورة شائكة، وليبعدنا عن أصول السرد وفلسفاته وتحولاته الثقافية والسوسيولسانية، التي تجاوزت منذ عقود طويلة معظم مفاهيم السرد التي جاء على طرحها في مقاله.
-فلقد تحول السرد الى تواصل ثقافي وتاريخي يعكس تاريخية الحياة اليومية ويفكك أنظمتها الأيديولوجية. (يُنظر:Dieder Coste: Narrative as Communication )
-والامر لا يقف عند هذا الحد فقط، بل ان مفهوم السرد ارتبط كذلك مع مفاهيم الدراسات الثقافية والنظرية النقدية ومفاهيمها التعدية التي نلاحظ انها لا تتأدلج الا في سياقات الكتابة العربية. يُنظر: Mieke Bal : Narrative Theory, Critical Concepts in Literary and Cultural Studies
-ولنظرية السرد حضور لافت في توضيح علاقة الفلسفة بالزمن التاريخي الخيالي والواقعي والعجيب. يُنظر:Marke Currie : Narrative, Fiction and The Philosophy of Time
واذا كانت ” لغة السرد التقنية” والوضعية لها حظوة كبرى على ثقافة السرد ومقولاته التاريخية والسوسيولسانية، فلماذا لجأ د. إبراهيم الى إتباع مثل هكذا تكنيك؟
من الملاحظ ان السبب الأساسي الذي دفع د. إبراهيم الى تبني مفاهيم نقدية مبتورة من سياقها المنهجي والنظري والفلسفي كالسرد واللغة الأدبية ..الخ، هو تحديد النقد الموجه وتحديد مهامه وتوزيع ادواره وإعادة مركزة خطابه. وفعلا رأينا كيف ان نقده كان محددا ضد كتاب الرواية الجدد؛ وضد جماعات معينة؛ وتمركز حول لغة وتقنيات كتابة الاعمال السردية. وبهذه الطريقة نأى بنفسه وبنصه من مواجهة وتفكيك ظاهرة بروتوكولات المثقفين الجدد؛ المستحوذين على كل شيء، والمسيطرين بنصوصهم المفروضة قسرا، التي طالما تعاملت مع الآخر بوصفه “غُشَما لاستهلاك نصوصهم” المتكاثرة والمنتشرة في الفضاء الواقعي والافتراضي بل وحتى الميتافزيقي!!
فمن خلال ادلجة مفهوم “السرد” واختصاره على تقنيات الكتابة الأدبية والروائية، ابتعد إبراهيم عن مواجهة “تماسيح النشر” ونقد نصوصهم وتفكيك مفاهيمهم والتشكيك في ابداعهم المزعوم والمدعوم؟ بل لم يواجه أولئك الذين وصلوا الى مرحلة ينشرون فيها كتبا كاملة في الصحف اليومية؟ ولم يواجه أولئك الذين صنعوا لهم جيوشا من “الغُشَم” تؤيد شعاراتهم في المواطنة وحرية التعبير وصناعة الامن والسلام وبناء الانسان ومواجهة الأقليات والتفكير بعد داعش وإنتاج خطط مستقبلية وميتافزيقية لمرحلة ما بعد داعش؟ فهل نصوص هؤلاء لا تنتمي لمنطق السرد ولغة الكتابة؟ هل لا توجد لهؤلاء سلطة تسندهم وتروج لكتاباتهم الأيديولوجية؟
تُرى، ألم يتابع د. إبراهيم ظاهرة تحول كثير من الصحف عندنا الى مقاطعات محمية بسلسلة من مقالات “الف ليلة وليلة اللامتناهية” حيث السيطرة والافضلية للنشر لأولئك المحتكرين فضاء الكتابة والنشر منذ عقود فهل هؤلاء هم غُشَماء أيضا، وهم وإن تقاعدوا عن جمهورية افلاطون فأن سلطة ظلالهم تحكم الواقع وتتحكم في مساراته التاريخية؟ فلماذا لم يلتفت د. إبراهيم في نصوصهم؟ ولماذا لم يكتب مقالا واحدا عنهم؟ ولماذا لم يفكك اسلوبهم اللغوي والادبي في كتابة المقال؟ فهل كانت اسلوبياتهم في الكتابة متقنة لدرجة لا تحتاج فيها الى الاهتمام وإعادة التفكير في الآثار الوخيمة لسردياتها التي لطالما عملت على تسطيح المفاهيم وتطويعها لرؤيتهم الأيديولوجية الخاصة؟
لقد تأسست الدراسات الثقافية على فكرة نقد منطق الاستهلاك “الغُشَمي” للنصوص وسردياتها المسيطرة التي تقود اتجاهات واعتقادات وميول “الغُشَماء”. وإذا علمنا ان د. عبد الله إبراهيم هو من اهم المختصين في حقل الدراسات الثقافية والسردية، فأين جهوده في مواجهة ظاهرة الاستهلاك غير الصحي وغير الانساني لمثل تلك النصوص واصاحبها الذين لم يأتوا من العدم ولم يظهروا بطريقة فجائية ولم يخلقوا حسب منطق “كن فيكون”. فهؤلاء لهم يجرئوا على التجاوز على جمهورية السرد، مالم يسبق وجودهم تشريعا لظهورهم السلطوي بوصفهم كتابا ومبدعين وروائيين؟ وهنا لا يمكن ان يستقيم التماثل الذي عقده د. إبراهيم بين الغُشَم والسلطة، لان أمثال أولئك هم بروتوكولات صاعدة وجمهوريات حاكمة في حد ذاتها، يبطشون بكل شيء ويفعلون أي شيء يحلو لهم. وهم في النهاية، يمثلون ذيول أولية لمبادئ سلطوية أولى سابقة على كل شيء، حالهم كحال المتربعين عندنا في مواقع الثقافة وانتاجها ونشرها، فقد مضت عقود وعقود “وسحرهم الغُشَمي لم ينقشع بعد” بل على العكس من ذلك كلما تقدم فيهم الزمن، تعتقَّت فيهم روح السلطة ونفوذها وسيادتها وهيمنتها.
يُتبع…