موسيقى “السطمبالي” في تونس .. لحن العتق من العبودية
لا يعرف الكثير من التونسيين موسيقى “السطمبالي”، رغم أن ألحانها عزفت في بلادهم، منذ مئات السنين، وخرجت من رحم “معاناة الزنوج” من العبودية.
وتسعى فرقة تونسية إلى إحياء هذه الموسيقى، بحفلات وإقامة مهرجان لها، في محاولة للتعريف بفن عمره مئات السنين.
وتمثل القارة السمراء نقطة انطلاق الكثير من الألوان الموسيقية بينها “الريغي”، التي حطت رحالها بجزر الكاريبي، كما أبحرت موسيقى الجاز، الإفريقية واضعة مرساتها على ضفاف نهر الميسيسيبي في الولايات المتحدة الأمريكية.
وحلقت موسيقى البلوز، ذات الأصول الإفريقيّة، لتجد موطنا لها في القارة الأمريكية، لكن موسيقى “السطمبالي” بقيت حبيسة تونس، ولم تحظ بفرصة الانطلاق خارج القارة السمراء.
موسيقى السطمبالي، التّي تحاكي تاريخ زنوج تونس، تنحدر من ثقافة إفريقية بالأساس، وتجد مرادفات لها في مختلف دول شمالي إفريقيا، فنجد “القناوة” في الجزائر والمغرب، “الدّيوان” في الجزائر، “المكاري” في ليبيا، و”البوري” في موريتانيا.
ورغم أنها كانت تقدم إبان حقبة العبودية في تونس، قبل إلغاء الرق في القرن التاسع عشر، لكنها ظلت قائمة حتى بعد تحرير العبيد.
مراسلة الأناضول رافقت آخر فرق “السطمبالي” في تونس ويطلق عليها فرقة “سيدي علي الأسمر”، بحفل موسيقي، في منطقة باب جديد، بقلب العاصمة.
فرشت أرضية بلاط الزاوية بالزّرابي التقليدية المنقوشة، أو كما يسميها التونسيون بـ”المرقوم”، وازدانت الجدران بألحفة وأقمشة مختلفة ألوانها، وتأهبت الفرقة المكونة من 8 أفراد.
انطلقت قرقعات “الشقاشق” تلك الصفائح المعدنية، مصدرة أصواتاً شبيهة بالأجراس، توحي للسامع بأنها سلاسل ممزقة وأغلال قد فتحت منادية لعالم الحرية، يصاحبها قرع الطبول لتكتمل الصورة برقصات السطمبالي ذات الخطوات المدروسة.
كما لا تغيب عن الفرقة آلة “القمبري” الوترية والإيقاعية في الآن ذاته، وعادة ما يقوم بالعزف عليها قائد الفرقة الذّي يسمى بـ”اليِنّا”، وهو من يرشد أعضاء فرقته إلى المقامات الصحيحة تجنبا لأي خروج عن ألحان السطمبالي.
يقول رياض زاوش، رئيس “جمعية ثقافة فن السطمبالي تونس سيدي علي الأسمر” (42 عاما)، للأناضول، إنّ الفن الزنجي أقدم من المالوف التونسي (موسيقى ذات طابع أندلسي).
ويضيف أنه إبان العهد الملكي كانت توجد بتونس 6 منازل شهيرة بالتغني بهذا الفن؛ 4 منها في تونس (العاصمة)، وهي: برنو، كوفة، جماعة، وزاوية سيدي علي الأسمر، واثنين في مدينة صفاقس (جنوب).
رياض، الذّي تربى في حي “باب جديد” العتيق، حفظ فيه أصول موسيقى السطمبالي ومقاماتها منذ أن كان عمره 11 عاماً، لفت إلى أنّ الأغاني التي يشدون بها في فرقتهم تتغنى بالرسول الأكرم وبمدائح الذّكر.
ويرى الزاوش أن “فن السطمبالي لم يجد حظه في تونس، كباقي الفنون والأنماط الموسيقيّة، على عكس فن القناوة في المغرب (والجزائر)، والدّيوان في الجزائر، التي تقام لهما مهرجانين دوليين.
ويقول الزاوش، إنّ جمعيتهم حديثة العهد، حيث تأسست في 2016، وتسعى إلى تنظيم مهرجان خاص بفن السطمبالي، في أغسطس/ آب القادم، بمدينة غار الملح، بولاية بنزرت، شمال العاصمة، لتميز هذه المنطقة بالحصون التاريخية والفضاءات المفتوحة على البحر، ما يخلق انسجاما مع ألحان هذا الفن.
ولعل شخصيّة “البوسعدّية” من أطرف مكونات عرض السطمبالي، وتجسد خاصة في فضاءات واسعة كالشوارع والمسارح الكبرى لجلب السياح بحركات فلكوريّة.
وبحسب رياض الزاوش فإن الأسطورة الشعبية تقول إن البوسعدية، هو أحد ملوك مالي، خطف تجار الرقيق ابنته سعدية، من بيتها فتنكر في ملابس غريبة من صوف وأشرطة من الفرو والرّيش والحديد، وغطى وجهه بقناع مكشوف العينين مزدان بأصداف البحر حاملا بيديه الشقاشق، مردداً هتافات عله يجدها.
وهناك روايات أخرى تقول إنّ “هذا الملك المالي وصل إلى تونس، التي عُرفت في الماضي بكونها سوقاً لتجارة العبيد، عساه يجدها”.
صالح الورغلي، عازف آلة القمبري، وهو قائد الفرقة وبلغة السطمبالي هو “اليِنّا” (في تونس) أو “المعلم” (كما هو الأمر في الجزائر والمغرب)، يقول للأناضول، إن أغاني السطمبالي حافظت على اللهجة الإفريقيّة ، أو كما تسمى لديهم بالهاوسا.
ورغم أن تلك الأغاني تقدم باللة العربية، لكن قد لا تفهم عند كثير من التونسيين، نتيجة اللهجة الإفريقية المستخدمة، وفق الورغلي.
والسطمبالي، بحسب الورغلي،: “كلمة قديمة جدا وهي أمازيغية بربرية (السكان الأوائل لتونس)”، ولا يعرف معناها دقة.
“اليّنا”، تطرق أيضاً إلى ما اعتبره تهميشاً لهذا النمط الموسيقي، واعتبر أن الحل لمقاومة اندثاره إقامة مهرجان سنوي يستضيف الفرق من مختلف دول إفريقيا، وتقام فيه عروض القناوة والديوان وغيرها.
ودعا إلى ضرورة دعم وزارة الثقافة حتى تنجح هذه التظاهرة وتتواصل، ولم يتسن الحصول على تعليق من وزارة الثقافة بشأن الأمر.
كما طالب كذلك بتدريسه في المعهد العالي للموسيقى، حتى لا يموت هذا الفن، وحتى تتخرج ناشئة توصله إلى مختلف بلدان العالم.
منال الصمادحي، شابة قدمت لحضور العرض، تقول للأناضول،: “جئت اليوم لاكتشاف السطمبالي لم أكن أعرفه من قبل”.
وأضافت: “دفعني الفضول لأتعرف على موسيقى ذات صبغة روحانية، كما أعجبني الإيقاع والتنوع في الآلات المعتمدة”.
أما فاطمة بن سعد، وهي في الخمسينات من عمرها، فعبرت عن أملها في أن “لا يندثر هذا النمط الموسيقي، فجميل أن نعود إلى عاداتنا القديمة وثقافتنا وتقاليدنا”.
وتشير إلى أن نجليها “سالم” و”أنيس”، وهما في العشرينات، تعلما أصول السطمبالي ومقاماته منذ الصغر، وأصبحا ضمن فرقة “سيدي علي الأسمر”.
وتشير دراسات موسيقية تونسية إلى أن السطمبالي، كان سبباً في بروز مقام موسيقي تونسي يدعى “طبع الرصد عبيدي 9″، في إحالة للفظة العبوديّة، وهو ما أكده لنا “الينّا” صالح الورغلي.
جدير بالذّكر أنّ تونس عرفت بمكان لتجارة الرقيق طوال قرون طويلة، قبل أن يتم تحرير “العبيد الأفارقة”، بموجب “قانون إلغاء الرق” الصادر في عهد حاكم تونس أحمد باي عام 1846.
مقطع من أنغام السطمبالي