عبد الله العروي: مشكلنا هو مشكل تأخر فكري الجزء الأخير
أجري هذا الحوار مع المفكر المغربي عبد الله العروي من طرف جريدة الأحداث المغربية في عدد و 24-25 23 نونبر 2013
- يظهر من كلامكم إلى حد الآن، أنكم لا تعارضون التدريس بالدارجة، لأن ذلك التدريس أمر واقع في السنوات الأولى من الابتدائي، و لكنكم تتحفظون و تعارضون ترسيم الأمر حتى لا تحدث القطيعة مع الإرث الثقافي العربي، هل هناك موانع أخرى ترونها وجيهة في الرد على الدعاة إلى ذلك الترسيم ؟
طبعا هناك موانع أخرى، أكتفي بمثال بسيط و لكنه دال. هؤلاء الذين يدعون إلى التدريس بالدارجة، يرفضون استشراف ما ينتظر هذه المغامرة من مشاكل على أرض الواقع. تخيل معي، أنا أستاذ التعليم الابتدائي قادم من الدار البيضاء و أتقن التحدث بالدارجة البيضاوية و أجهل التحدث بأي دارجة أخرى، عينتني الوزارة في مدرسة ابتدائية بمدينة شفشاون. التحقت بموقع تعييني، و فوجئت منذ وصولي بكون أهل هذه المدينة يتحدثون بدارجة أجد صعوبات كبيرة في استيعاب طريقة نطقها و كلماتها و كذا تراكيبها. هذا مشكل كبير سيواجهني في التواصل مع تلامذتي، هل أتحدث إليهم بالدارجة البيضاوية التي أتقن التحدث بها؟ لن يفهموني، إذن علي أن أتعلم التحدث بلهجتهم حتى أضمن نجاح التواصل. سينقلب الدور، و سأضطر إلى تعلم دارجة شفشاون من تلامذتي ! سيصير التلميذ الشفشاوني معلما ! و سينقلب المعلم البيضاوي إلى متعلم ! إذا كان هذا الوضع هو ما يسعى إليه المطالبون باعتماد الدارجة في المدرسة المغربية، فهذه المدرسة لن تصلح لأي شيء ! هذا ما قاله صاحبنا القذافي “التعليم بيتي”، و لا حاجة لنا بمؤسسة المدرسة بما أن الأم ستقوم بالمهمة التربوية و التعليمية، و ستصلح شأن أبنائها و بناتها. انتبه، فأنا لم أبتعد هنا عن موضوعنا الشائك، و أنوب عن الدعاة إلى التدريس و تعليم الأطفال فلا حاجة للمدرسة، لأن البيت يمكن أن يقوم بهذه المهمة أحسن قيام، بما أن اللغة المعتمدة هي لغة البيت و إلا فإن المدرسة ستنافس البيت في معمته التربوية و التعليمية.
- لنتمهل قليلا عند مثال الأستاذ البيضاوي الذي عينته الوزارة في مدرسة ابتدائية بشفشاون، و ننطلق منه لنقف و إياكم على المشاكل التي يستدعيها التدريس بالدارجة و اعتمادها بالتالي لغة للكتابة، ما هي هذه المشاكل ؟
لن أدخل مرة أخرى في التفاصيل، و أكتفي بمثال تاريخي يكفي في نظري، للوقوف على المشاكل التي يستدعيها التدريس بالدارجة و كتابة هذه اللغة الشفوية. أستدعي لهذا الغرض لوبنياك الذي ألف مؤلفا ضخما حول دارجة منطقة زعير 1945، و أتوجه إلى كل من يتقن التحدث بهذه اللغة، و أقترح عليه قراءة تلك الدارجة التي اشتغل عليها لوبنياك، ليقف على أنها لا علاقة لها بالعربية الدارجة التي يتحدث بها أهل زعير الآن. أورد هذا المعطى التاريخي لأصل إلى الخلاصة التي تعنينا في موضوعنا، لأننا إذا كتبنا الدارجة و انتقلنا بها من مستوى اللغة الشفوية إلى مستوى اللغة المكتوبة، سنقوم بتجميدها في المكتوب، و سنجعلها تنفصل عن الدارجة اليومية التي يتحدث بها الناس، و تتوقف بالتالي عن مسايرة مجريات ذلك التحدث اليومي و ما يراكمه من تطورات و تحولات تطرأ على اللغة الشفوية غير المقيدة بقيد الكتابة، لنجد أنفسنا بعد خمسين سنة أمام نفس المشكل الذي تعاني منه العربية من حيث هي لغة مكتوبة. أعود هنا إلى قراءة القرآن جهرا، و أستحضر ما قاله ابن خلدون حول ضرورة أن يردد الأطفال تلك القراءة في الكتاتيب، و لا يهم أنهم لا يفهمون ما يرددونه بصوت مرتفع، لأن الغاية من تلك القراءة هي تصويب النطق و ضبط سلامة مخارج الحروف كما في التمرن على أداء الغناء.
- ما علاقة هذا الكلام بالوضع الحالي للغة العربية و الدعوة إلى تعويضها بالدارجة ؟
لأجيب عن سؤالك سأضطر إلى الابتعاد قليلا عما تطلب مني. مشكل اللغة العربية أنها ليست أبجدية و إنما نصف أبجدية. ليس هذا عيبا فيها و إنما هي خصوصية تجعلها تجعلها لغة يكتسبها المتكلم بها على شقين، الشق الأول يتعلق بتعلم الحروف، لبصير النطق أو القراءة عبارة عن تحريك ذلك الجسم الذي هو، مثلا، “كتب” أو “كتاب”. بناء على هذه الخصوصية، إذا تعلمت الحروف و لم تتعلم الحركات التي تحرك تلك الحروف، لن تنجح في عملية القراءة التي تتطلب منك تحريك تلك الحروف حسب المطلوب في كل كلمة. من هذا يجد الأجانب عن اللغة العربية صعوبة في قراءة الكلمات العربية، لأنهم قد يضبطون الحروف و لكنهم يفتقدون الحركات التي تحرك تلك الحروف حتى يحصل المراد من فعل القراءة. أضيف إلى هذه الخصوصية مسألة الصرف و التحكم في العبارات بميزان ذلك الصرف. سأقدم أمثلة تشخص هذه المسألة، و أقول “فعل” و “استفعل” و “تفاعل” و “افتعل” و “انفعل”. نصير هنا كأننا أمام قواعد موسيقية و عليك أن تستوعبها و تضبطها و تتحكم في استعمالها، حتى تصير قواعد مكتسبة ذهنيا. إذا حدث هذا، و استحضرنا تعلم الحروف و الحركات، يمكنك أن تنجز فعل القراءة و الكتابة دون مشاكل.
- ألا ترون أن هذا هو مشكل اللغة العربية و سبب أزمتها باعتبارها معقدة و حروفها لا تعد و لا تحصى ؟
على العكس، و أمهلني إلى أن أنهي كلامي. تلك القواعد هي الخطاطات التي ينبغي تعلمها و ضبطها و استيعابها ذهنيا، و إذا استوعب المتكلم تلك الخطاطات عبر القواعدـ يعني بالأجرومية، و أضاف الحركات التي تحرك الحروف، تصير هي سبب القراءة دون السقوط في ارتكاب الأخطاء. يمكن أن تجري تجربة ملموسة لتقف على ما قلت، من خلال القيام بتعليم طفل أول كتابة اللغة العربية بحروف عربية، و تعليم طفل ثان كتابة تلك اللغة بحروف لاتينية. من سيكون الأسرع ؟
- الطفل الثاني سيكون أسرع في قراءة الكلمات العربية لأنه لن يهدر الوقت في التفكير في حركات الحروف قبل القراءة ؟
هذا في سنة الأولى فقط، لأن الطفل الثاني سيقرأ الحروف اللاتينية بسهولة. أما إذا علمت الطفل الأول تلك الخطاطات في السنة الثانية، و سهرت على أن يستوعبها و يضبط قواعدها، فسيتفوق على الطفل الثاني في السنة الثالثة من تعلمهما للغة العربية، و سيكون أسرع في القراءة و الفهم. أريد هنا أن أقف عند الذين خدموا اللغة العربية و قعدوا لها، و هم في غالبهم ليسوا عربا، و إنما من بلاد فارس و غيرها. سيبويه ليس عربيا، و خدم اللغة العربية.
- فعلتم حسنا و أنتم تثيرون شكل اللغة العربية، لأن هذا الشكل هو سبب أزمتها، خاصة على مستوى قراءة الطفل للكلمات بما أنه يصير مطالبا بفهم حركات حروف تلك الكلمات قبل قراءتها، ثم يقوم بقراءتها إن هو نجح في المهمة، لينتقل إلى فهم معانيها، ألا ترون أنها عملية معقدة ؟
أنت لا تريد أن تفهم ما أقول، و تميل إلى النقاش الفارغ. أعود يا سيدي، إلى الحديث عن الدارجة التي تريدون تدريس الطفل بها، و لنفرض أنها دارجة واحدة و مستقرة و ستحافظ على استقرارها لمدة طويلة قد تستغرق عشرين أو ثلاثين سنة. كل هذا غير مؤكد و غير مضمون، و مع ذلك أسايرك في الانتقال بها إلى مستوى الكتابة، و ستكتبها بحروف عربية، لكنك ستلاقي صعوبة كبيرة في قراءتها، لأنها لا تتوفر على تلك الخطاطات التي ذكرتها، و عليك أن تعثر على سيبويه جديد قادر على دراسة الدارجة، و التنقيب فيها لمعرفة هل تتوفر على خطاطات كتلك التي تتوفر عليها العربية. أما إذا لم تكن تتوفر على تلك الخطاطات، فعليك أن تنتقل إلى اختيار كتابتها بحروف لاتينية، و عليك أن تبدع حروفا جديدة قادرة على كتابة جميع أصوات الدارجة الخاصة بها. إذا قمت بهذه العملية فستقطع صلة الدارجة بالفصحى، و بالتالي لا تدعي بأنك ستحافظ على الفصحى إلى جانب الدارجة، لأنك اخترت لغة أخرى غير العربية، و كتبتها بحروف أخرى غير حروف العربية، ستخلق جيلا جديدا منفصلا تماما عن العربية و ثقافتها و ما تزخر به من كنوز ستحرمه من الإطلاع عليها.
- و ماذا لو كتبنا الدارجة كما تنطق ؟
خذ الصفحة الساخرة بجريدة “الأحداث المغربية”، و اقرأها.
- دارجة الساخرة مكتوبة بالطريقة نفسها التي تكتب بها العربية، أنا أقترح مثلا، كتابة كلمة “الداريجا” و ليس “الدارجة”.
يظهر أنك تبحث عن عمل إضافي و تسعى إلى خلق متاعب جديدة لا حاجة لنا بها، و لن نستفيد منها، و سنثقل كاهل اللغويين بأمر لن يفيدنا في تحقيق التقدم المرغوب، و إنما سنرهن به مستقبلنا و نضيف عبئا اقتصاديا إلى باقي أعبائنا الأخرى و النتيجة في الأخير غير مضمونة. زيادة على الانفصال عن الثقافة العربية و موروثها، هل ستترجم لي مقدمة ابن خلدون إلى الدارجة لأقرأها ؟ !
- يستخلص من كلامكم أنكم تناهضون اعتماد الدارجة في التعليم، و تعارضون الارتقاء بها إلى مستوى الكتابة، و تفضلون أن تظل لغة التواصل في البيت و الشارع.
لخص لزميلك ما قلته منذ انطلاق الحوار حتى يفهم موقفي من مسألة تدريس الدارجة. لنترك الهزل جانبا، الموضوع جدي و يتعلق بمستقبل شعب، و أعيد من باب التلخيص، أن المطلوب منا هو ألا نخلط بين الشفوي الذي له مجاله، و بين المكتوب الذي له مجاله، و لا اعتراض على استعمال الدارجة أو الدارجات في السنوات الأولى من التعليم، على أساس أن المسألة تربوية و تتعلق بتيسير طرق تدريس الطفل حتى ينجح في الاستيعاب و يحصل المرجو من العملية التربوية. أظن أن هذا المستوى موجود في المدرسة المغربية، و إن لم يكن موجودا فعلينا إيجاده و تحقيقه. أما مسألة الكتابة بالدارجة و الانتقال بها إلى مستوى التأليف الأدبي و العلمي، فأظن أن ذلك التأليف ليس مجال الدارجة، لأن مجالها محدود، و هو الغناء الشعبي و الفكاهة و الحوارات و السينما و الأعمال التلفزيونية، و هذا هو الحاصلـ و أغلب المستجوبين في التلفزيون و المحطات الإذاعية، يتحدثون بلغة وسطى بين الدارجة و العربية. كل هذا لا علاقة له بالمكتوب، و المدرسة لا علاقة لها بالشفوي و التعبير العفوي و التلقائي كما في لغة التواصل اليومي في البيت و الشارع. المدرسة مجال مضبوط للانتقال من الشفوي إلى الكتابي، و لا أتفق مع الذين يدعون إلى الكتابي مات و ولى زمانه مع الأنترنيت و همينة الصوة. هذا أمر غير صحيح، لأن الكتابي ما زال مستمرا و فاعلا في الأنترنيت، و إنما الحامل هو الذي تغير و انتقل من الصفحة إلى الشاشة. ما علينا، فما أرفضه و رفضته منذ زمان بعيد هو أن نحصر ثقافة المغاربة في الشفوي و في الفلكلور. أرفض هذا الاتجاه الذي يسعى إلى أن تصير ثقافة المغاربة ثقافة فلكلورية. هذا حط و تبخيس من قيمة المغرب و المغاربة، لأن الانتماء إلى المغرب و ثقافته الشفوية شيء، و الانتماء إلى الموروث الثقافي العربي شيء آخر. أكثر من ذلك فأنا أرى أن الانتماء إلى المغرب لا يتعارض أصلا مع الانتماء، ليس إلى المجموعة العربية أو الشعوب العربية، و إنما ثقافة الجاحظ و ابن خلدون و ألف ليلة و ليلة. هذا الموقع لخصته في أربع صفحات ضمن كتابي “ديوان السياسة”.
- ماذا كتبتم في “ديوان السياسة” ؟
سأقرأ عليك مقطعا بما أنك لم تقرأ الكتاب: “بعد الاستقلال دعا بعض المثقفين المفرنسين إلى اعتماد الدارجة لغة للتعبير الأدبي. كانوا يدعون إلى ذلك و لا يطبقونه أبدا”. أشير هنا إلى مجلة “أنفاس” خاصة نسختها الفرنسية، لكنهم لم يسبق أن مروا إلى الفعل، و اكتفوا بالدفاع عن تلك الفكرة دون تطبيقها.
“ظلت الدارجة تستعمل، كما كانت دائما، في الفنون المحكية: الأغنية، الكلام الموزون، المسرح الهزلي، اعتمدت في الإذاعة ثم في التلفزة، و كذلك لأغراض تربوية سيما في محاربة الأمية، لكن لم يحاول أحد من أنصار الدارجة عندنا ما حاوله سعيد عقل في لبنان أو محمود تيمور في مصر. ما تفرضه الممارسة الحالية مدعومة كما قلت آنفا، بالتقنيات الحديثة، هو اعتماد الدارجة في كل ما هو شفاهي مهما تكن الوسيلة، و مهما يكن المقام (الشارع، البيت، البرلمان، المدرسة، المعمل…)، و اعتماد الفصحى فيما هو فكري، فحصي، تأملي، رمزي، أكان أدبا أو فلسفة أو علما أو تقنية… و بسبب الاشتراك في الحرف، إن الفرق بين اللغتين يزيد و ينقص. عندما ترسم الدارجة فإنها تفصّح بالضرورة. كل قارئ يستطيع أن يجرب ذلك بنفسه. و عندما تقرأ الفصحى جهرا، عندما يحول الحرف إلى صوت، فإنها تقترب حتما من الدارجة، إذ تحذف أو تختزل الحركات. لولا ذلك لما أدركنا في الحين أن المتكلم بالفصحى مصري أو خليجي أو تونسي أو مغربي. يشارك بعض أنصار الدارجة دعاة الأمازيغية القول إن الغرض ليس ثقافيا و حسب، بل هو اجتماعي و سياسي، إذ يرمي إلى ردم الهوة بين الطبقات، محو الأمية، التخفيف من ثقل التراث الكلاسيكي المشبع بالقيم العتيقة، عرقلة تأثير الفضائيات الظلامية. الهدف نبيل. إلا أنه قد يتحقق بطريق غير ترسيم الدارجة مع ما يتبع ذلك من سلبيات ذكرناها في حق الأمازيغية. قد يتحقق بـ “تعميم الفصحى”، و هذا التعميم، إذا حصل بالفعل، قد يتطور إلى حد أن تتميز الفصحى المغربية عن غيرها تميز الإنجليزية الهندية عن الإنجليزية الإنجليزية. و العملية هذه ليست أكثر صعوبة من التي يدعونا إليها أنصار الدارجة لو كانوا صادقين.”
- انطلاقا مما جاء في “ديوان السياسة” حول الدارجة، ماذا لو تفضلتم و توسعتم أكثر في ذكر سلبيات اعتماد تلك الدارجة لغة للتدريس و الكتابة.
السلبية الأساسية لذلك الاعتماد، تتمثل في العبء الاقتصادي. بلد فقير يعاني من مشاكل كثيرة، و تضيف إليها مشكل خلق لغة جديدة، و المورد البشري الذي سيخدم تلك اللغة، زيادة على المعاهد و تأليف المعاجم و الكتب المتخصصة في دراسة هذه اللغة التي تسعى إلى الانتقال بها من المستوى الشفوي إلى المستوى الكتابي. كل ما ستحققه أنها ستوجد مناصب شغل لكثير من الدكاترة المتخصيين في اللغويات. هذا كل ما ستحققه من العملية برمتها. لهذه السلبيات فأنا مع تعميم الفصحى و تخفيض مستواها حتى تنزل بها إلى أفهام العامة، و بالتالي مغربة العربية الفصحى. من سيعارض هذه العملية ؟ !
- على العكس، سيكون ذلك هدفا مثاليا.
أنت لا تقول بمغربة الفصحى لأنك تسعى إلى اعتماد الدارجة في المدرسة و الكتابة. هذا التعميم إذا حصل بالفعل، قد يتطور إلى حد أن تتميز العربية الفصحى المغربية عن غيرها. هذا ما كتبته في “ديوان السياسة”، و ما زلت أدافع عنه، لأن العربية المغربية المكتوبة تختلف عن العربية المشرقية المكتوبة، و بالتالي فتمغربيت تكون فالفصحى و غير الفصحى، و ليس بالدارجة المكتوبة بالضرورة، و إذا أردت أن تكون مغربيا، كن مغربيا بالتفكير، و انفصل عن المشارقة بالفكر، و ليس باللغة فقط. و إذا أردت أن تبذل جهدا لتطويع الدارجة و الانتقال بها إلى المستوى المكتوب، فلماذا لا تبذل ذلك الجهد لتطوير الفصحى المعربة التي هي لغتنا ؟ تتحدثون عن العربية كأننا في القرن الثاني الهجري الذي وصل فيه إلى المغرب ناس يتحدثون بلغة لا تمت إلى لغتنا بصلة ! العربية لغة مغربية، و هناك قبائل مغربية كثيرة قدمت من المشرق، و لغتها الأصلية العربية.
- انطلاقا من تجربتكم في الكتابة الروائية و تجارب روائيين مغاربة آخرين، ألا تتفقون معي في كون الدارجة عندما تنتقل إلى المكتوب الروائي، تصير بدورها لغة للكتابة الروائية ؟
عدد لي النصوص الروائية التي استعملت الدارجة في الكتابة. كم من نص روائي مغربي استعمل الدارجة المغربية ؟ إذا جمعت كل ما كتب بالدارجة في تلك النصوص فلن تنجح في جمع كتاب من خمسمائة صفحة.
- تلك الصفحات المعدودة تشكل بداية، و تحقق تراكما في خدمة الدارجة و تعاونها الحواري مع ما تسميه المعربة.
عوض أن أخدم الدارجة، أفضل ترجمة مؤلفات روسو إلى العربية، لأن تلك الترجمة ستكون تعريبا لأفكار جديدة، تساهم في تغيير منظومتنا الفكرية. أفضل ترجمة مونتيسكيو، و ترجمة نظريات في التاريخ عوض مضيعة الوقت في الكيفية التي سأكتب بها “تمان الخضرا اليوم بشحال؟”. هذا ليس معقولا. أفضل الترجمة عن هدر الوقت و الطاقات في أمر لن يفيدنا. إذا زرت لبنان و تحدث للبنانيين، ستجدهم أنهم يقولون العبارة باللبنانية ثم يترجمونها إلى الفرنسية أو الإنجليزية، لأنهم شعب يعشق الترجمة، و لكن هذا الانتقال الدائم من لغة إلى لغة أخرى، انتقال يغيب الإبداع، و يجعلك تتوهم أنك تحقق تقدمك حين تترجم ما تقوله بلغتك إلى لغة أخرى. هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، الإبداع العلمي و الفني، يتحقق الآن عند الناطقين بالإنجليزية، لأنهم يستغلون ما ستضيعه أنت من وقت في الاشتغال على لغتك الشفوية و الرهان على التعليم بها، يستغلونه في تطوير معارفهم و التركيز على المفاهيم و ضبط المعلومات. لهذا أريد أن أوضح موقفي مما يقع الآن في المغرب، و أريد الكشف عن سبب غضبي. مشكلنا ليس هو التأخر الاقتصادي أو العلمي، بل مشكلنا هو مشكل تأخر فكري، أي أن المفاهيم التي توصل إليها الآخرون لم تصلنا بعد. هذه المفاهيم لا يمكن أن تصل إليها، إلا إذا تعلمت لغة أجنبية و أتقنتها. لذلك فالمستوى الفكري الذي يصل إليه الأشخاص الذين تعلموا الفرنسية أو الإنجليزية و أتقنوها، ليس هو مستوى الأشخاص الذين اكتفوا بالعربية. هذه مسألة لاحظتها مرارا أثناء لقاءاتي بالمشارقة في باريس و غيرها، ففي الوقت الذي أقرأ فيه ديكارت في نصه الفرنسي و أعمل جاهدا على فهمه، يكتفي غيري بالاطلاع على ملخصه بالعربية لما كتبه ديكارت، و يظنون أنهم قرؤوه و فهموه. لو فرض علينا الفرنسيون اللغة الفرنسية أثناء الحماية، و أصبحت لغة الحديث و الكتابة كما فعلوا في إفريقيا السوداء، لما كان لي اعتراض على الأمر، لأننا كنا سنستوعب الفكر الحديث، و لكن ذلك لم يحدث لأن الفرنسيين لم يريدوا فرنستنا، و وجدنا أنفسنا أمام اللغة العربية، و من حسن حظنا أننا لسنا وحدنا في هذه المسألة. هناك العرب من لبنانيين و مصريين و سوريين و عراقيين، و تضافرت جهود الجميع لحل المشكل. و الآن تعرف الترجمة مع أموال البترول، حركة لا بأس بها، و عوض الدفع بهذه الحركة في المغرب، نفاجأ بمن يتبرأ من العربية و يريد الكتابة بالأمازيغية، و من يدعي أن العربية لم تعد تليق بنا و لا تصلح لتدريس أبنائنا. لا دخل لي في ما تريدون، و اختاروا اللغة التي تريدون، و لكن اعلموا أن الوقت الذي ستقضونه في خدمة تلك اللغة، هو وقت ستضيعونه في تعلم هذه اللغة الجديدة، و لن تستطيعوا استدراك ما ضاع منكم. تصوروا معي ما ستثقلون به كاهل الطفل الصغير، ستعلمونه الحرف العربي و الحرف اللاتيني و تيفيناغ، و لا تقفون عند هذا الحد، بل تطلبون منه أن يتعلم بالدارجة كما في البيت، و أن يكتبها، و لا نعرف إلى حد الآن الحرف الذي ستكتب به تلك الدارجة ! هل فكر الذين دعوا إلى التعلم بالدارجة و تعميمها، في ما دعوا إليه ؟ ! كل هذا لأقول أنا مغربي و أتحدث لغتي المغربية و أدرس بها و أكتب، كما الكندي الذي يسكن منطقة الكيبيك و يتحدث بالفرنسية. تريد لغتك، لك ما أردت، لكن لا تفرض إرادتك على المغاربة. المغاربة ورثوا اللغة العربية، و أنا لا دخل لي في مسألة هذا الإرث، تستعملها مجموعة بشرية لها وزن في العالم. نعم العربية لغة موجودة و تحمل إرثا ثقافيا كبيرا و غنيا، و إذا كنا نعاني من تخلف فكري فلأن الجديد يصل إلينا بوساطة و بعد خمس أو عشر سنوات. الأمر نفسه يعيشه الإسبان و الشعوب الناطقة بالإسبانية، على الرغم من أنهم لا يعانون من مشكل الفرق بين اللغة المحكية و اللغة المكتوبة. الأمر نفسه تعيشه الإيطالية مقارنة بالفرنسية، و هذه الأخيرة مقارنة بالإنجليزية. هذا لا يعني أن نتخلى عن العربية، و نعود إلى نقطة الصفر، و نقوم بما قام به العرب في عصر التدوين، ندون الدارجة لأنها لغة الأم، و نختارها لغة للتدريس و الكتابة ! تريد أن تعود بي القهقرى أربعة عشر قرنا إلى الخلف ! كيف لا أغضب و شخص غريب عن المجال يريد فرض رأيه الشخصي على المغاربة و على مستقبل البلاد، فقط لأنه يتوفر على قناة اتصال بأصحاب القرار، و يريد إلزام الدولة بالتدخل ؟ ! أنا من جهتي، لا أريد أن أشارك في هذه العملية الانتحارية. هذه هي عقيدتي في مواجهة هذه الشعوبية الجديدة، الشعوبية و ليس الشعبوية…
إقرأ أيضا: