محمد عابد الجابري: دار الإسلام ودار الحرب … أية علاقة؟
يعتقد كثير من الناس، ومنهم بعض المستشرقين ومن يستقي منهم معارفه عن الإسلام والنظم الإسلامية، وكذلك بعض الذي يفتون من غير علم ممن يصنفون تحت مقولة “الإسلام السياسي” الخ، أن العلاقة بين “دار الإسلام” و”دار الحرب” هي الحرب، ولا شيء غير الحرب. وهذا خطأ. وهدفنا في هذا المقال أن بين مدى حجم ذلك الخطأ فنقول:”دار الحرب” عبارة تطلق على “بلاد المشركين الذين لا صلح بينهم وبين المسلمين”، سواء كانوا في الجزيرة العربية أو في الشرق أو في الغرب أو في الشمال أو في الجنوب، كما تطلق عبارة “دار الإسلام” على بلاد المسلمين أينما كانوا، وهي دار سلام لا يجوز التحارب بين أهلها –المسلمون- إلا إذا تعلق الأمر بقتال “المحاربين” وهم قطاع الطرق الخارجين عن النظام العام الذين يعتدون على أرواح الناس وأموالهم. وليس لهذا التصنيف أية دلالة إيديولوجية أو “سياسية” معينة يجعل معنى “دار الحرب” ينصرف بالتحديد إلى أوربا أو إلى المسيحية دون غيرهما، كما يفهم من ذلك كثير من المستشرقين الذين يستعيدون اليوم هذا التصنيف لتكريس وهم “الصراع الأبدي” بين “الإسلام” و”الغرب”. إن “دار الحرب” اصطلاح يطلق في وقت من الأوقات على الجهة التي تكون، في ذلك الوقت، في حالة حرب مع الدولة الإسلامية، سواء كانت تلك الجهة في الغرب أو في الشرق، نصرانية أو غير نصرانية، وسواء كانت هذه الدولة الإسلامية في المشرق أو في المغرب الخ…
ومقولة “دار الحرب” في كتب الفقهاء تنتمي إلى ما يعبر عنه اليوم بـ “القانون الدولي”، إذ يتناولون من خلالها العلاقة بين “دار الإسلام” –والمقصود الدولة الإسلامية- وبين الدول الأخرى غير الإسلامية. أما أن تكون “دار الإسلام” مجالا لا يحتمل إلا دولة واحدة (الإمام الذي يكون رئيسا على جميع المسلمين كما كان عليه الحال زمن الخلفاء الراشدين)، أو تكون مجالا لأكثر من دولة (كما آل إليه الأمر منذ أوائل عصر العباسيين وإلى اليوم)، فتلك مسألة أخرى. وفي كلتا الحالتين لا بد، من وجهة النظر الفقهية، من أن تلتزم الدولة (أو الدول الإسلامية) بما يقرره الشرع في ما نعبر عنه اليوم بمجال العلاقات الدولية. من ذلك أن دار الإسلام لا يجوز فيها التحارب بين المسلمين، لا يجوز أن يقتل بعضهم بعضا ولا أن يعلن بعضهم الحرب على بعض، أفرادا كانوا أو طوائف أو قبائل أو دولا. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا الموضوع كثيرة وواضحة لا غموض فيها.
هذا في “دار الإسلام”. أما ما هو “خارج دار الإسلام” فيطلق عليه “دار الحرب”، لا لأن العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تقوم بينها وبين دار الإسلام هي علاقة الحرب، بل لأنها الجهة التي يمكن أن تدخل معها دار الإسلام في حرب: إما وجوبا، وإما جوازا، وإما لا يجوز. ذلك أن علاقة دولة المسلمين بها إما تكون من قبيل إعلان الحرب وإما من قبيل الصلح، وإما من قبيل الأمان. وقد أطنب الفقهاء في تفصيل حكم الشرع في هذه الأحوال، حسب اجتهادهم، أي حسب فهمهم للنصوص الدينية (القرآن والحديث) و تفسيرهم لسلوك النبي (ص) والصحابة في هذه النازلة أو تلك، وأيضا حسب تقدير كل منهم لوجه المصلحة، مصلحة الإسلام والمسلمين.
وبما أن المجال هنا لا يتسع لمقال تحليلي مفصل فسنقتصر على ذكر بعض اجتهادات الفقهاء في هذه المجال، مجال “العلاقات الدولية” بين المسلمين وغيرهم.
لنبدأ بحالة “الصلح”…
الصلح: أو المهادنة أو الموادعة أو المعاهدة أو المسالمة أو المصالحة، وكلها بمعنى واحد، يقصد به من الناحية الشرعية إبرام عقد بين الدولة الإسلامية (يبرمه الإمام أو من ينوب عنه) على ترك القتال والعيش في سلام. وإنما تم التنصيص على أن هذا العقد إنما يبرمه رئيس الدولة أو من يمثله، تمييزا له عن “عقد الأمان” الذي سيأتي ذكره. ويضيف الفقهاء أن عقد الصلح يكون لمدة مؤقتة تمييزا له عن عقد الذمة الذي يكون بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك المجوس،فهو عقد الذمة مؤبد. أما عقد الصلح ويكون مع المشركين والكفار فمؤقت.
وهذا مفهوم، لأن الإسلام يعترف باليهودية والمسيحية والمجوسية ولا يتعرف بالكفر والشرك. ولكن الإسلام يقبل مسالمة الكفار والمشركين لقوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم الذي كان في حالة حرب مع مشركي مكة: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله” ((الأنفال 61). ومعروف أن النبي عقد صلح الحديبية مع كفار قريش، وكان ذلك لمصلحة الإسلام والمسلمين. ومن هنا أجمع المسلمون على جواز الصلح مع الكفار عند ظهر المصلحة. فإذا تعينت المصلحة أصبحت الصلح واجبا. وأكثر من ذلك أجاز بعض الأئمة (الأوزاعي خاصة) أن يصالح الإمام على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار إذا دعت إلى ذلك ضرورة كاتقاء الفتنة أو غير ذلك. وقال الشافعي: “لا يعطي المسلمون الكفار شيئا إلى أن يخافوا أن يصطلموا (يستأصلوا) لكثرة العدو وقلتهم، أو لمحنة نزلت بهم”.
هذا باختصار عن الصلح، أما الأمان،أي إعطاء “الأمن” للمشركين فقد استدل عليه الفقهاء بقوله تعالى: “وإن أحد من المؤمنين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله” (التوبة:6)، أي يهتدي به ويرجع عن كفره. وعززوا ذلك بأحاديث وبسيرة الرسول (ص) خاصة عقده الهدنة مع قريش بالحديبية. ومن ثم قالوا: إذا اقتضت المصلحة الأمان لاستمالة المشركين إلى الإسلام، أو لراحة الجيش، أو ترتيب المسلمين أمورهم، أو للحاجة أو لمكيدة وغيرها، جاز الأمان.
والأمان نوعان: أحدهما: عام، وهو ما تعلّق بأهل إقليم أو بلد، فتعقد الهدنة أماناً لكافتهم، يعقدها الإمام أو ولاته، وبعبارة أخرى الأمان العام من اختصاص الدولة لا الأفراد. أما النوع الثاني فهو الأمان الخاص، أي إعطاء الأمان للأفراد، ويصحّ من الولاة والآحاد. فبإمكان الفرد الواحد من المسلمين أو الوالي على ناحية أن يمنح الأمان لكافر واحد أو لجماعة من الكفار لا يتعطل بعددهم جهاد ناحيتهم، مثل العشرة والمائة وأهل القلعة والقافلة، فإن كثروا حتى تعطّل بهم جهادهم صار أمانا عاماً. واختلفوا في العبد والمرأة هل يمنحان الأمان للمشركين؟ فجمهورهم يقول بجوازه وقال بعضهم: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام.
وللأمان أحكام، منها ما يخص وضعية الكافر المستأمن إذا دخل دار الإسلام. واشتهر في ذلك رأي الإمام أبي حنيفة، فقد قال سئل عن قوم من أهل الحرب خرجوا مستأمنين للتجارة، فزنى بعضُهم في دارِ الإسلام أو سرق، هل يُحَدُّ؟ قال: لا حَدَّ عليه، ويضمن السَّرِقَة؛ لأَنَّهُ لم يصالح ولم تكن له ذِمَّةٌ؛ وقال أبو يوسف : “والقولُ ما قال أبو حنيفةَ، ليس تُقَامُ عليه الحدودُ؛ لأَنَّهُم ليسوا بأهل ذِمَّةٍ؛ لأَنَّ الحكم لا يجري عليهم؛ أرأيتَ من زنى منهم وهو محصن أترجمه”؟
ويلخص بعض الفقهاء الوضعية القانونية التي يكون عليها القادم من “دار الحرب” إلى “دار الإسلام” على ضوء أحكام الهدنة فقالوا: إذَا دَخَلَ الحرْبِيُّ دَارَ الإسْلاَمِ بِأَمَانٍ في تِجَارَةٍ، أَوْ رِسَالَةٍ، ثَبَتَ لَهُ الأَمَانُ في نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ في ضَمَانِ النَّفْسِ وَالمَالِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَانِ، وَالحُدُودِ، حُكْمَ المُهَادِنِ؛ لأنَّهُ مِثْلُهُ في الأَمَانِ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإنْ عَقَدَ الأَمَانَ، ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الحَرْبِ في تِجَارَةٍ، أَوْ رِسَالَةٍ، فَهُوَ عَلَى الأَمَانِ في النَّفْسِ وَالمَالِ؛ كالذمي إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الحَرْبِ في تِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ. وَإنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الحَرْبِ بِنِيَّةِ المُقَامُ، وَتَرَكَ مَالَهُ في دَارِ الإسْلاَمِ، انْتَقَضَ الأَمَانُ في نَفْسِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِضْ في مَالِهِ. فَإنْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ، انْتَقَلَ المَالُ إلَى وَارِثِهِ. وَهَلْ يُغْنَمُ، أَمْ لاَ فِيهِ قَوْلاَنِ…
أما الوضعية القانونية التي يكون عليها المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان فيحدد الفقهاء بناء على أخلاقيات الإسلام. من ذلك أنهم قالوا: وَإنْ دَخَلَ مُسْلِمٍ دَارَ الحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَسَرَقَ مِنْهُمْ مَالاً، أَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ مَالاً، وَعَادَ إلَى دَارٍ الإسْلاَمِ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُ المَالِ إلَى دَارِ الإسْلاَمِ بِأَمَانٍ، وَجَبَ عَلَى المُسْلِمِ رَدُّ مَا سَرَقَ، أَوِ اقْتَرَضَ؛ لاًّنَّ الأَمَانَ يُوجِبُ ضَمَانَ المَالِ في الجَانِبَيْنِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ.
هذا عن الصلح والأمان، ولكن العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب لا تقتصر على تلك التي تتحدد بالصلح والأمان بل هناك علاقات أخرى تخص أنواعا كثيرة من المعالات أيام السلم وأيام الحرب. من ذلك ما يتعلق بإتيان المسلم في دار الحرب أعمالا حرمها الشرع في دار الإسلام، كالربا وغيره. وفي هذا المجال رووا حديثا عن النبي (ص) جاء فيه: “لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب”، بمعنى أن معاملات المسلم مع أهل دار الحرب لا تجري عليها أحكام الربا كما هي مقررة في الشرع الإسلامي. وبناء على هذا الحديث قال الإمام أبو حنيفة وغيره بجواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب. وعند أبي يوسف والشافعي يجوز. وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالًا بالقمار فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة. وأضافوا: وكذا إذا باع خمرا أو خنزيراً. وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كالحربي عند أبي حنيفة لأن ماله غير معصوم عنده فيجوز للمسلم الربا. وأما إذا هاجر إلينا ثم عاد إليهم لم يجز الربا معه لكونه أحرز ماله بدارنا فكان من أهل دار الإسلام.
هذا بالإجمال عن العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب، وهي من جنس ما نعبر عنه اليوم بـ “العلاقات الدولية”، ومنها يتبين أن الإسلام بالاتفاق مع أهل الكتاب ويعترف بالاختلاف مع غيرهم. وفي كلتا الحالتين ينظم علاقاته مع هذا “الآخر” أو ذلك، في وقت السلم كما في زمن الحرب، بناء على أخلاقياته ووجه المصلحة للمسلمين وللبشرية جمعاء.
يبقى بعد هذا الكلام عن قوانين الحرب وأخلاقيات ممارستها. ولذلك كان لهذا الموضوع بقية.