محمد الأشعري يكتب عن رواية يوسف فاضل الأخيرة
يحقق يوسف فاضل، من خلال تتابع أعماله الروائية، شيئا أساسيا في تجربة الكاتب، أن يرى عناصر مشروعه تنتسج تدريجيا وتشكل في مرحلة من تقدم النسيج نوعا من الرصيد الأخلاقي، إلى جانب الرصيد الجمالي الذي يظل في العمق هاجس كل مشروع إبداعي. لا يتعلق الأمر هنا فقط بالتراكم الذي سمح به انتظام الإنجاز الروائي ليوسف فاضل واستمراره بوتيرة متقاربة منذ أزيد من عقدين، بل يتعلق أساسا بالعمل المنهجي الذي يقوم به الكاتب على مجالات وأدوات اشتغاله، بالسعي الدائب إلى تنظيم منطق لهذا التدفق، دون أن يصبح هذا المنطق نفسه “عقيدة عمياء” تنفي الكاتب خارج نصه. سنجد، إذن، استراتيجية الكاتب مبثوثة في ثنايا النص، إنه يتعقب آثار السقوط الإنساني متمثلا في هشاشة الفرد وهامشيته، أو في اندثار الأمكنة، أو في ابتذال النفس البشرية، أو في عنف السلطة وأهوائها، في نصوص يمسك بعضها بتلابيب بعض، (الخنازير، ملك اليهود، سيليستينا، حشيش، ميترو محال… ثم النصوص الأخيرة).
وفي نفس الوقت فإنه يبني، بكثير من التفاصيل المحبطة، جمالا مخلخلا، لأنه يسعى باستمرار إلى إدهاشنا بالمفارق والعبثي والمتواري خلف المعنى الجاهز، ويقترح علينا أن نرى الواقع من زوايا لا تخطر على بال، أو، بتعبير الأستاذ أحمد المديني، “أن نقلب الصورة وننظر إليها من قفاها”، وسيكون علينا عندئذ أن نترك العدة التقليدية التي ندخل بها النصوص عند العتبة، أي أن نتحرر من اللغة، ونستعمل العين في التقاط الأبعاد المتعددة لوجود الأشياء والكائنات، ثم أن نخضع الصورة كجملة سردية لتقطيع يسمح بتركيب المشاهد من بعضها، وتوليد زوايا النظر من الانتقال والاسترجاع والإحالة والاستباق واللعب، دون أن ينسى الكاتب أنه مهما توسل بهذه العين “الكاشفة الحاجبة” فإنه يظل كاتبا، أي مشغولا باللغة في ما تستطيعه وما تعجز عنه، من هنا تلك الأنفاس المتقطعة اللاهثة في الكتابة، كأن يوسف فاضل ابتكر جملة سريعة النبض، متوترة، صارمة، ليجاري بها سرعة الصورة وتلاشيها الذي لا مناص منه، لذلك يمكن أن أجزم بأن التقنيات “المافوق لغوية” التي يلجأ إليها يوسف فاضل، ربما جعلت منه، على نحو مفارق، واحدا من أكثر الروائيين المغاربة اشتغالا على اللغة، في علاقتها بالوصف والتأمل والتمثيل والجوار اللغوي، وفي علاقتها أيضا بالإيقاع وبالنفس الشعري داخل النص بمجمله وفي كل جزء منه على حدة.
في نصه الأخير “طائر أزرق نادر يحلق معي”، نعثر طبعا على كل عناصر هذه الاستراتيجية، في الرؤية وفي الكتابة، والقارئ المتمرس بأعمال يوسف فاضل سيعثر، لا محالة، على ما يعرفه منه في الحبكة الحكائية، وفي التقطيع السينمائي للرواية، وفي تقمص الشخصيات لأدوار تكاد تكون “ملعوبة” أكثر منها مسرودة، كما سيعثر على مشاهد بأكملها (حوارا وتشخيصا) لا يعرف المرء ما إذا كانت قادمة من موقع التصوير أو ذاهبة إليه.
لكن عنصرا جديدا أضيف إلى هذه الاستراتيجية المستقرة، وفي الواقع هو هنا منذ النص ما قبل الأخير “قط أبيض جميل يسير معي” (لا يمكن ألا نلاحظ تنميط العنوان بهذه الصيغة السحرية عبر عملين متتاليين، فهو يوحي بأن الصيغة عنوان ناظم لمرحلة من الكتابة الروائية في مسار يوسف فاضل، بل هي أسلوب مدروس يجعل النص كما في تيه المجاذيب طائرا يحلق، أو قطا يمشي، أو جروا يتبع، أو قردا ينط، جنب الكاتب، جنب المجذوب، يقول ولا يقول، يفصح ولا يفصح، يلهث خلف المعنى الخفي دون أن يكون متأكدا أنه سيجده، وربما دون حتى أن يقصد العثور عليه).
هذا العنصر الجديد في الاستراتيجية يتمثل في إخضاع النص لتمرين صعب ومجازف، يتحول بمقتضاه إلى شاهد على عهد، في نص القط (أو نص يوسف) “تستدعى شخصية مهرج البلاط لنكتشف من خلالها تآكلا من الداخل، ونزولا قدريا إلى الجحيم، تنسجه بإحكام فخاخ النفوذ وشهوة المال والسلطة، والتأرجح الدرامي بين السخط والرضى، المهرج الذي يفترض أن يقودنا إلى مناطق الخفة والضحك، ينزل بنا إلى أغوار التحلل والانكسار المرتبطين بكل استبداد.
وفي نص “الطائر”، يعود الكاتب إلى تازمامارت، أي إلى عنوان مرحلة كاملة من عهد الحسن الثاني. وبالطبع، فإن مراهنة الشهادة تضع النص في ورطة حتى قبل أن يولد، إذ ما الذي سيقوله النص الأدبي أكثر مما حفره الواقع في أجسادنا وفي ذاكرتنا الجماعية من ندوب لا تمحى، وإذا قال شيئا، فماذا سيكون؟ مواجهة للظلم؟ ترويضا للفجيعة؟ مقاومة للقبح؟ رفضا للنسيان؟ أم مجرد إراحة بعدية للضمير، كأن تقول كما قال لي يوسف فاضل مرة وقد سألته عن موضوع روايته الجديدة: “لقد قلت لنفسي لا يمكن أن أكون قد عشت في زمن ومكان عرفا هذا الزلزال، ولا أكتب شيئا كأنني عشت في عصر آخر”.
ربما يكون الأدَب كلَّ ذلك وغيرَه عندما يربط بين الإبداع والشهادة، ولكن الورطة ليست أن ينجح أو لا ينجح في أن يكون كذلك، بل أن ينجح أو لا ينجح في أن يظل أدبا؛ وفي حالة تازمامارت، فإن الجريمة كانت وستظل جرحا غائرا في وجودنا كمغاربة، لذلك فستظل تحديا دائما للكتابة، لكن عدا الشهادات المباشرة للضحايا، التي ظهرت في كتب لا يمكن أن نقرأها بعين الأدب، بل بعين الألم وما يتركه أو لا يتركه من هامش للتذكر والتلفظ، فإن يوسف فاضل كان في الواقع أمام صحراء، صحراء مادية يجسدها غياب شبه كلي لانتقال تلك الأحداث المؤلمة ولو بعد ربع قرن من الكشف عنها، من الواقع إلى الخيال، أي من الوجود المادي القبيح والمعذب إلى الوجود “الجمالي” من خلال الإبداع الأدبي والفني؛ وفي هذا الانتقال، كما هو معلوم وكما في تجارب قاسية أخرى في تاريخ الإنسانية، يتم “تنسيب” الفجائع والفظائع، ويتحقق نوع من الاستشفاء الجماعي، مما يسمح للإنسانية بمواصلة الحياة كأن شيئا لم يكن، وبالتعايش مع الوحش الكامن في الأعماق. كان يوسف فاضل، إذن، أمام هذه الصحراء المادية (أدبيا)، وكان أمام صحراء رمزية يجسدها صمت الأمة على ما جرى؛ لسنوات طويلة كان البعض يعرف، والبعض لا يعرف، والجميع يعلم علم اليقين أن محكومين بمدد سجن، بعضـُها انتهى وبعضها لم ينته بعد، ابتلعتهم الأرض، ولم يعد لهم وجود في سجلات الدولة ولا في أمكنتها. وقد تقاسمت الأمة هذا الصمت دون أن تضع الأسئلة المناسبة في الوقت المناسب، واستمر إنكار الدولة لوجود تازمامارت، كما استمر الصمت لا يكسره سوى “الحق في الهمس” كما سماه ذات يوم الصديق محمد الساسي، إلى أن أصدرت المرحومة كريستين السرفاتي كتابها الصاعق عن الموت في تازمامارت، الذي لا أظن أن مغربيا قرأه ولم يشعر بتضاؤل إنساني لا اسم له. ما الذي يمكن أن يفعله الكاتب بعد ربع قرن مضى على هذا الصمت الذي لا يقل فجائعية عن الواقعة نفسها؟ ما الذي سيقوله لنا وما الذي سيكون في أوانه أو بعد فوات أوانه.
يجب أن نشير هنا إلى أن من بين وظائف الإبداع الإبقاءُ على الجروح مفتوحة؛ فإذا كان مطلوبا من الناحية السياسية أن نطوي الصفحة ونتوجه نحو المستقبل، فليس مطلوبا من الناحية الثقافية والأخلاقية أن نطمس الآثار المؤلمة. وبهذا المعنى، فإن كتاب تازمامارت لا بد أن يظل مفتوحا في التاريخ والسياسة والأدب والسينما، في نوع من العودة المنقذة إلى الأثر الذي أكلته الجرافات. في هذا السياق، إذن، يعود بنا يوسف فاضل إلى شبح القلعة، كاتبا خلف الكاميرا، لا يروي ولا يشخص، بل يوزع الحق في الرواية (الحق في الحياة) على شخصيات تعبر ربع قرن في أربع وعشرين ساعة، شخصيات يخرجها المؤلف من الكهف (خمسة وسادسهم كلبهم)، لتستعيد خيط حكاية توقفت في ما يشبه لقطة جامدة من عهد سحيق، تبدو الشخصيات مفصولة عن حكاياتها، هي أيضا تكتشف معنا أثناء ما تروي تهلهل الأشياء، عبث المصائر، وأطوار التدني البشري الذي يجعل إنسانا عاديا، له زوجة وبنات وينتظر رغم أنف الطبيعة مولودا ذكرا ويلعب التيرسي، يدفن إنسانا حيا دون أن يرى عينيه المتقدتين، فلا ينقذه من هذا الوأد المنظم إلا الكلبة هندة، تستخرجه من ركام الجير والأتربة وتعيد بذره في حياة
أخرى.
في بناء محكم تهيمن عليه رؤية سينمائية، يقوم الكاتب بدور الدليل، داخل الحكاية، حكايته هو، لا حكاية المكان، ولا حكاية الجريمة، لا حكاية الضحايا ولا حكاية القتلة؛ حكايته هو، التي لا يريد أن ينقذ بها أحدا لأن الشيء الوحيد الذي يمكن إنقاذه من هذه الورطة هو الرواية، كأنه يقول لنا: رغم كل الهول الذي جرى، فإن الحكاية توجد في مكان آخر وهي ليست “كبيرة” أصلا، هناك فقط بار صغير في مدينة صغيرة، تجري به الأشياء الواطئة البريئة التي تجري في كل بار، وهناك يأتي ضمن من يأتي طيار شاب اسمه عزيز يقع في غرام البنت الصغيرة زينة التي تعيش في كنف أختها العاهرة ختيمة، وعندما ينقذها من براثن الوحش ويسألها وماذا نفعل الآن ترد دون أي تقدير للعواقب: نلعب، فيبدأ اللعب جميلا قاسيا غامضا وخارج كل توقع، وعزيز يحب اللعب بالسماء الزرقاء، يحب التحليق، وعندما يطير لا يريد أن ينزل، شخص بلا مجد ولا بطولة، يدخل غمار التراجيديا دون أن يكون أسطورة إغريقية، وفي هذا البار يقضي عزيز جزء كبيرا من ليلة زفافه، أي من ليلة تحليقه في سرب مقاتلات الانقلاب، وفي هذا البار ستبني زينة غيمة الانتظار الفسيحة، ومنه ستمضي إلى رحلة البحث الأخيرة، وفيه ستتلقى الإشارة الوحيدة من الجسد الحي وقد أخرجته الكلبة من القبر، وفيه سنعثر على عزيز الذي مشى سنوات قبل أن يعثر على بار اللقلاق، مندسا في جبل الأطلس، وفيه سنعثر على “عزيز” تلك البنت التي ألبست اسم الغائب كصلاة يائسة، البنت التي من صلب لاعب التيرسي الذي كان لا بد أن يئد أحدا، البنت التي رضعت حليب زينة، وقد تدفق فجأة بعد ولادة مستحيلة مضى على إجهاضها ربع قرن، وهاهي البنت عزيز تقرأ لنا في بار اللقلاق الفصل الأخير من الرواية من بين قوائم الطاولات، وهي زاوية أخرى لقراءة الصورة المقلوبة.
في معرض حديثه عن “ملك اليهود” ليوسف فاضل، يلاحظ الأستاذ أحمد المديني أن الكاتب حتى عندما يعتمد في بناء روايته على شخصية فارقة مثل الباشا الكَلاوي، فإنه يمسح الدوال العَلَمية، ليحصر الشخصية في أخلاقية النقيصة البشرية، ذلك ما يفعله يوسف فاضل بتازمامارت، يمحو كل الدوال العَلَمية، ليست هناك سوى قلعة بدليل سياحي لإحكام التمويه، لا يلمح إليها سوى موسم الزواج الجماعي بإميلشيل، ليست هناك تواريخ ولا أسماء، المعتقلون مفرد بصيغة الجمع، اسم شخصي تربطه وشائج مفترضة بتلك اللائحة، حدث ما حدث في عهد مّا، هو عهد العهود، العهد الممكن في كل عهد، والحكاية ليست كبيرة أصلا، عزيز كان يحب التحليق، وإذا طار فإنه يرفض أن ينزل، وكان يريد أن يعيش حكاية بسيطة مع زينة، ومع أخته التي تربي سلحفاة في السطح وتذود عن بيضها حدأة دائمة التحليق.
والسياسة؟ والانقلاب؟ والعذاب المهين؟ والماقبل؟ والأثناء؟ والمابعد؟ هذه أسئلة القارئ وليست أسئلة المؤلف، المؤلف يقوم بالتضليل الضروري في كل رواية ليضعنا أمام المعنى الغائب، والذي هو بالضرورة معنى متعدد، ملتبس، ومنفلت باستمرار. من صوت إلى صوت، تتعدد الروايات والزوايا، في ليل طويل يفضي إلى ليل، كل صوت يسلمنا نصيبه من الحكاية، دون أن يعتدي على حكاية الآخرين لأنه لا أحد يمكنه أن يجد وشائج مقنعة بين حكاية وأخرى، هل وجدت القلعة بسبب الانقلاب، أم وجد الانقلاب بسبب القلعة، وماذا إذا كان ذلك القهر متأصلا في النفس لا يحتاج إلى سبب ليكون؟ ولماذا نسعى إلى الحصول على أسباب إنسانية لتفسير ما حدث، بينما تستحيل أنسنة ما حدث؟ هندة الكلبة الشاردة فهمت هذه الاستحالة، لأن ذاكرتها العميقة تختزن صورة العربة التي تطارد الكلاب الشاردة وتقتلها لتنظف المدينة من وجودها المربك. عندما تتمدد هندة على جسد عزيز لتدفئه، وعندما تلعق أنفاسه لتستعيده من براثن الموت، تتذكر العربة وأهوالها، وتخمن أن القلعة هي عربة الإنسان لأخيه الإنسان، فتسمح لأحلامها أن تقودها إلى عالم بلا “عربات”.
يوسف يقودنا عبر متاهة القسوة التي تطل من شقوق السخرية والتأمل، إلى الشخصيات مصفاة من العذاب، لا تريد أن تغضب من أحد ولا تريد أن تحقد على أحد ولا تريد أن تنتقم من أحد، شخصيات أدركت بعد عبور الجحيم أن الأهم، في نهاية الأمر، هو إنقاذ تلك التفاصيل الصغيرة التي يحرص نظام القسر على مصادرتها منا، لنتحول إلى كومة عظام مدفونة في جدار، لا يلمع فيها سوى خاتم نجا من الإبادة.
بهذه القناعة ربما، يمشي عزيز سنوات حتى يصل إلى بار اللقلاق، ليس لاسترجاع ربع قرن سرق منه، وليس لمواصلة حياة هربت به في منعطف ماكر، ولا حتى لينزل بعد تحليق طويل، بل فقط لاستعادة قبلة كانت زينة قد استلفتها منه ليلة الزفاف إلى المجهول، فقط لأن قبلة الحر دين عليه.
* نص المداخلة التي شارك بها محمد الأشعري في اللقاء المنظم في ملتقى أصيلة حول تجربة الكاتب يوسف فاضل.
عن جريدة المساء المغربية.