محمد عابد الجابري : “الأنا” مبدأ للسيطرة …
“الأنا” مبدأ للسيطرة … و”الآخر” موضوع له! هذا في لغة الفكر الأوربي…
ما هو المعنى الذي يعطيه الفكر الأوروبي لكلمة “الأنا” في عبارة “الأنا والأخر”؟
على فهم هذه المسألة يتوقف استيعاب أبعاد السؤال الذي طرحه المحللون الاستراتيجيون في أمريكا بهد انهيار الاتحاد السوفيتي، سؤال: “من سيكون العدو غدا؟”.
ودون الرجوع إلى الفكر اليوناني الذي انبنت رؤيته للعالم على ثنائية الإنسان والطبيعة، باعتبار أن الإنسان مركز الكون، ومقياس الأشياء، وأن حقيقته أنه عقل أو “صورة” في مقابل الطبيعة أو “المادة”، ودون الرجوع كذلك إلى الفكر المسيحي وثنائية الأب والابن، واللاهوت والناسوت الخ… قد يكفي هنا التذكير بأن الفلسفة الأوربية الحديثة هي أساسا فلسفة “الذات” أو “الأنا”: الإنسان ذات في مقابل العالم الذي هو موضوع لها. والفكرة المؤسسة لفلسفة “الذات” هذه هي كوجيتو ديكارت: لقد شك هذا الفيلسوف الفرنسي في كل شيء و”مسح الطاولة”، حسب تعبيره، مسحا ولم يبق لديه أي شيء آخر غير كونه يفكر: ومن هنا قولته الشهيرة: “أنا أفكر إذن أنا موجود”. وهذا يقتضي أن وجود “الأنا” سابق ومستقل عن وجود العالم وعن أي وجود آخر. ومن هنا كان كل وجود غير وجود “الأنا” هو “آخر” بالنسبة لها، وبالتالي فعلاقة التغاير هي علاقة بين الأنا والآخر ابتداء: سواء كان هذا الآخر هو الشيطان الذي افترض ديكارت أنه قد يكون هو الذي ضلله فصار يشك في كل شيء، أو كان هو الإله الذي اطمأن إليه أخيرا باعتبار أن الله لا يمكن أن يضلله، ومن ثم جعله ضامنا ليقينه ذاك، أو كان شيئا من الأشياء المادية المحسوسة التي يتوقف وجودها على يقينه… وهكذا فالشبكة التي يرى “العقل الأوربي” العالم من خلالها وبواسطتها شبكة تهيمن فيها علاقة أساسية هي علاقة “الأنا” و”الآخر”، لا علاقة “آخر” “بآخر”.
***
سيطول بنا الحديث ويتشعب لو أننا أخذنا نتتبع فكرة “الآخر” في الفكر الأوربي. ذلك لأن هذا الفكر يتمحور كله حول هذه الفكرة، من ديكارت إلى هيجل وماركس إلى سارتر والذين جاءوا من بعده. لنقتصر إذن على إشارات مقتضبة، من هنا وهناك، الهدف منها ليس استقصاء الموضوع بل مجرد إثارة الانتباه.
نقرأ في قواميس الفكر الأوربي ومصطلحاته الفلسفية ما يلي: “الآخر: أحد المفاهيم الأساسية للفكر (=كان يجب إضافة: الأوربي) وبالتالي يستحيل تعريفه، ويقال في مقابل الذات Le même ” أو “الأنا”. أما هذه الأخيرة (الذات) فلا معنى لها سوى أنها المقابل، لـ”الآخر” Autre تقابل تعارض وتضاد، أو أنها المطابق لنفسه المعبر عنه بـ identité وهو ما نترجمه اليوم بلفظ “الهوية” أو “العينية”، أي كون الشيء هو هو: عين نفسه. وإذن فالغيرية في الفكر الأوربي مقولة أساسية مثلها مثل مقولة الهوية (أو العينية أو الذاتية). ومما له دلالة في هذا الصدد أن كلمة altérité أي الغيرية ذات علاقة اشتقاقية بـ altérer و altération وتعنيان تغير الشيء وتحوله إلى الأسوأ (تعكر، استحالة، فساد)، كما ترتبط بالاشتقاق بكلمةaltérnance التي تفيد التعاقب والتداول. ومعنى ذلك أن مفهوم “الغيرية” altérité في الفكر الأوربي ينطوي على السلب والنفي. بعبارة أخرى: يمكن القول إن ما يؤسس مفهوم الغيرية في الفكر الأوربي ليس مطلق الاختلاف، كما هو الحال في الفكر العربي، بل الغيرية في الفكر الأوربي مقولة تؤسسها فكرة “السلب” أو النفي. La négation ، فـ “الأنا” لا يفهم إلا بوصفه سلبا، أو نفيا، لـ “الآخر”.
وغني عن البيان القول إن لفظ “الأنا” في العربية المعاصرة إنما هو ترجمة لأداء معنىLe même بالفرنسية و ego بالإنجليزية والألمانية. وكلمة ego لاتينية تدل على ما تدل عليه كلمة “ذات” في اللغة العربية حينما يقصد بها الشخص المتكلم. ومن هذه الكلمة اشتقت مصطلحات أخرى مثل égocentrisme وهو ما نترجمه اليوم بـ “التمركز حول الذات”. ومنها أيضا égoïsme بمعنى “الأنانية” في الاستعمال اللغوي العام، أما في الاصطلاح الفلسفي فالكلمة تدل على المذهب الفلسفي الذي يعتبر وجود الكائنات الأخرى، غير “الأنا”، وجودا وهميا، أو موضوع شك على الأقل. ومن هنا المذاهب الفلسفية المثالية idéalismes التي لا تعترف بأي وجود آخر غير تمثلات الأنا: فالعالم هو ما أتمثله وأتصوره وليس هناك وجود آخر.
نقرأ في معجم لالاند الفلسفي في معنى الأنا Moiما يلي: “وعي فردي، بوصفه منشغلا بمصالحه ومنحازا لذاته”، وأيضا: “الميل إلى إرجاع كل شيء إلى الذات”. ويستشهد لالاند بعبارة للفيلسوف واللاهوتي، العالم الفرنسي، بليز باسكال يقول فيها: “للأنا خاصيتان، فمن جهة هو في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم، ذلك لأن كل “أنا” هو عدو، ويريد أن يكون المسيطر على الكل”.
مفهوم “الأنا” مبني على السيطرة، سيطرة الذات على ما تتخذه موضوعا لها، سواء كان هذا الموضوع أشياء الطبيعة أو أناسا آخرين. وفي هذا المعنى كتب ماكس هوركهيمر يقول: “من الصعب جدا أن يحدد المرء بدقة ما أرادت اللغات الأوربية في وقت من الأوقات أن تقوله وتعنيه من خلال لفظ ego (الأنا)، إن هذا اللفظ يسبح في تداعيات غامضة قاحلة. فمن حيث أنه مبدأ “الأنا” الذي يحاول جاهدا كسب المعركة ضد الطبيعة على العموم وضد الآخرين من الناس على الخصوص، كما ضد الدوافع السلوكية التي تحركه، يبدو (الـ ego ) مرتبطا بوظائف السيطرة والحكم والتنظيم (…). ولم يتحرر مفهوم الأنا في أي وقت من حمولاته وشوائبه الأصلية الراجعة إلى نظام السيطرة الاجتماعية. وحتى الصياغات المثالية لنظرية الأنا عند ديكارت تنطوي بالفعل، فيما يبدو، على معنى السيطرة. إن اعتراضات جاساندي على “التأملات” (=اسم كتاب لديكارت) تضع موضع السخرية تصور روح صغير، الـ ego أو “الأنا”، يقوم من داخل قلعته المخبأة في أعماق الدماغ […] بالتنسيق بين ما تنقله الحواس ويصدر أوامره إلى مختلف أجزاء الجسم”.
من خلال هذا التصور لـ “الأنا” كمبدأ للسيطرة يتحدد موقع “الآخر” ودلالته ووظيفته في الفكر الأوربي، أي بوصفه موضوعا للسيطرة أو عدوا، أو بوصفه قنطرة تتعرف الذات من خلاله على نفسها. يقول سارتر: “أنا في حاجة إلى توسط الآخر لأكون ما أنا عليه”.
هذا بصورة عامة. أما إذا انتقلنا إلى الكيفية التي يعي بها الفكر الأوربي المعاصر العلاقة بين ” الإسلام والغرب” فإن الجواب “الموضوعي” و”المحايد” نجده عند الباحث الاجتماعي الفرنسي المعاصر بيرتراند بادي، في مقالة حديثة له كتبها بعنوان “الغرب والعالم الإسلامي”. يقول فيها: “نحن نتحدث دائما عن الآخر، خصوصا عندما لا نحبه أو عندما نخافه أو عندما يكون فاتنا ساحرا”. والكاتب يفكر هنا في الإسلام كما يتـناوله الفكر الأوربي. ثم يضيف: “إن هذا النوع من النظرة الاجتماعية للغيرية أمر تقدمه الملاحظة، فلا يمكن أن يغيب لا عن الباحث الاجتماعي ولا عن المؤرخ ولا عن رجل السياسة. إنه يكشف عن موقف، ويساعد، بادئ ذي بدء، على اكتساب فهم أفضل عن الشخص الذي يتكلم، عن طريقته في التفكير وأسلوبه في العمل. والغيرية من هذه الزاوية يمكن اعتبارها “غيرية متخيلة” (أو وهمية). وهذا التعريف لـ “الآخر”، الذي يجعل منه مصدرا للسلوك، يتدخل بصورة أكيدة في سلوك الفاعلين. إنه يخلق وضعيات مصنوعة من التوترات والنزاعات، كما يخلق في الوقت نفسه مناسبات تستغل لتأكيد الذات وتبرير التصرفات وفرض الإرادة، أو الظهور بمظهر الضحية، كما يحدث أحيانا. ففي هذا المستوى من التحليل يمكن الحديث بكل اطمئنان عن غيرية استراتيجية. غير أن هذه الأخيرة التي تشيدها تمثلات وافتراضات ومصالح لا يمكن النظر إليها مع ذلك كغيرية مخترعة ابتداء، ذلك أنها تتغذى من قراءة لتاريخ عزل بصورة تعسفية عن تواريخ أخرى، تاريخ يضم مع ذلك مجموعة من التجارب والحوادث والمنشئات الفكرية والمؤسسية التي لا يمكن اعتبارها كلها غير ذات أهمية. إن الغيرية بهذا الاعتبار تضفي الشرعية على المقارنة وتغذيها وتجعل في الإمكان فهم الفوارق بين نماذج التطور والنمو. إنها في هذه الحالة تسمح بإضفاء الوضوح على منهج المقارنة وبالتالي يمكن النظر إليها بوصفها غيرية منهجية”
يريد هذا الباحث الاجتماعي أن يقول إن العلاقة بين الغرب والإسلام، في الفكر الأوربي، هي من جنس علاقة الأنا بالآخر التي يحكمها الإعجاب والافتتان (بسحر الشرق وهذا ما يسميه بالغيرية الوهمية أو التصورية ) أو توجهها إرادة القوة وحب السيطرة (التوسع الاستعماري وهذه هي الغيرية الاستراتيجية) وهما تتغذيان من تاريخ طويل من الاحتكاك والصراع … وأنه يجب الآن بناء هذه العلاقة على المقارنة والاعتراف ب “الآخر” وخصوصيته، وهذا ما حاول هذا الباحث القيام به في كتاب صدر له منذ سنوات بعنوان: “الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام”.
لنقف بهذه الاستشهادات عند هذه النقطة فهي كافية لتجعلنا ندرك أن “الغرب” عندما يفكر في نفسه من خلال عبارة “الغرب والإسلام” فهو يفكر في “الغرب” ك “أنا”، وفي الإسلام كـ”آخر” عدو، أو كموضوع للسيطرة أو كمصدر للخوف. إن هذا النوع من الرؤية لـ “الآخر” من صميم الفكر الأوربي الحديث والمعاصر، كما بينا.
هل يفعل ” الإسلام” -أعني أهله- الشيء نفسه؟
إن غياب مقولة “الآخر” في العقل العربي، بوصفها “أحد المبادئ الأساسية للعقل” (كما في الفكر الأوربي) يجعلنا نتردد في الجواب. إن المسألة تحتاج إلى مزيد بحث ونظر.