درجات “الآخر” … في القرآن
درجات “الآخر” … في القرآن. ومسألة تحتاج إلى قول مفصل..!
“الأنا مبدأ للسيطرة … والآخر موضوع لها”! ذلك هو الأساس المحدد لمضمون مقولة “الآخر” في الفكر الأوربي عموما، والحديث والمعاصر منه خصوصا. وهي مقولة تحتل فيه مكانتها كبديهية من بديهيات الفكر ومقوم من مقوماته الجوهرية. ذلك لأن الأنا (أو الذات) لا تعي نفسها في هذا الفكر إلا عبر “آخر”، وبالتالي فـ”الآخر” شرط في وجودها، من حيث إنه موضوع للسيطرة ومن ثمة لإثبات الذات.
تعامل الفكر الأوربي مع “الإسلام” في فترات احتكاكه معه –ويتعامل معه اليوم- على هذا الأساس. وقبل أن نعمل على بيان ذلك بأمثلة من العصر الحديث، نرى من المفيد أن نعرج عن “المبدأ” الذي يؤسس مقولة الآخر في الإسلام كدين، بعد أن سبق لنا أن أبرزنا كيف أن لفظ “الأخر” لفظ أجنبي عن اللغة العربية وقواعدها، وأن الغيرية في لغة القرآن تعني مجرد “الاختلاف”، وأنها بالتالي ليست ضرورية للوعي لوجود الذات، لأنها -أعني الغيرية في اللغة العربية وآدابها- تقع على مستوى الصفات فحسب، ولا ترقى إلى مستوى الجوهر.
والبحث في مضمون “الأخر” في الإسلام كدين يجب أن ينطلق من القرآن الكريم فهو المرجع الأول. ومع أن القرآن لا يستعمل لفظ “الآخر” إلا في الإطار الذي يستعمل فيه داخل اللغة العربية فإن إبراز تطبيقاته على “غير المسلمين” زمن النبوة قد لا يخلو من فائدة فيما نحن بصدده.
ينطلق موقف القرآن من “غير المسلمين” -في البداية على الأقل- من الاعتراف بهم، لا بوصفهم “الآخر” بالمعنى الأوربي للكلمة، بل كـ “آخرين” يعترف بهم، كأهل دين، وهم جميعا، بما في ذلك “الأنا”/الإسلام، متساوون أمام الله. يقول تعالى: “إن الذين آمنوا (المسلمون)، والذين هادوا (اليهود)، والنصارى، والصابئين (المجوس)، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة 62). ويعتبر القرآن النصارى –في مرحلة من المراحل- أقرب مودة إلى المسلمين من اليهود والمشركين: “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا: اليهود والذين أشركوا. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا: الذين قالوا إنّا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون” (المائدة 82).
وهذا الموقف الذي يمكن وصفه بـ “الغيرية الإيجابية” لم يكن يخص النصارى العرب وحدهم بل كان يعم النصارى عموما. يظهر ذلك جليا في مناسبة أخرى، حيث ينطوي الخطاب على موقف أقرب ما يكون إلى الموقف السياسي الإيجابي من الغرب المسيحي الذي كان يتمثل آنذاك في الروم (البيزنطيين). ففي القرآن: “الم، غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله، لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (الروم 1-6). إن القرآن ينتصر هنا للروم البيزنطيين في حربهم مع الفرس، زمن البعثة المحمدية، وذلك عندما كان “النصارى” الروم، كالنصارى العرب، مجرد “آخر” مختلف، ومجرد جار مسالم، على صعيد الدين كما على صعيد السياسة.
لكن، عندما أصبح الجوار والعلاقات الاجتماعية المختلفة، كعلاقات الولاء، يطرحان مسألة رسم الحدود بين المسلمين واليهود والنصارى، المتساكنين في “المدينة”، برزت الحاجة إلى تحديد الهوية، فظهر نوع جديد من الغيرية، أشبه بالغيرية المنهجية المقارنة، تؤكد على الانفصال والاختلاف الماهوي، كما في قوله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتوَلَّهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين” (المائدة 51).
ويرتفع الاحتكاك، بفعل الجوار، من مجرد احتكاك التساكن داخل المدينة الواحدة (مدينة الرسول) إلى احتكاك بين دولة صغرى ناشئة ودولة كبرى قائمة، ذات مصالح اقتصادية واستراتيجية في المجال الذي تتحرك فيه الدولة الوليدة. وهكذا فبمجرد ما رأت دولة الروم/الغرب أن الإسلام لم يعد مجرد حركة محلية، وأنه صار دولة تهدد مصالحها في المنطقة بادرت إلى الاصطدام العسكري معه (غزوة مؤتة). ثم جاء فتح مكة، التي كانت مركزا تجاريا عالميا، فازدادت مخاوف الروم على مصالحهم التجارية والاستراتيجية فجهز هرقل، رئيس الروم، جيشا ضم إليه جموعا من القبائل العربية النازلة بالشام وفلسطين، يريد اقتحام مكة وانتزاعها من الدولة الجديدة، دولة الإسلام.
لقد تغيرت طبيعة هذا الآخر/الروم/الغرب فكان من الطبيعي أن يتغير موقف الإسلام منه. وتأتي سورة “براءة” لتقرر “غيرية” أخرى إزاء أصناف “الآخر” التي تعاملت معها: إزاء المشركين من قريش الذين كانت تربطهم مع الرسول معاهدات نقضوها، وأيضا إزاء اليهود والنصارى الذين صاروا خصوما معلنين. إنها “غيرية البراءة”، وهي غيرية استراتجية لا لبس فيها عبر عنها القرآن في غير ما آية من السورة المذكورة. من ذلك قوله تعالى: “وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله، أنّى يؤفكون. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، والمسيحَ ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون. يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون” (براءة/التوبة 31-32 -انظر تحلينا لهذه السورة والأحداث المرتبطة بها في كتابنا: “العقل السياسي العربي” مركز دراسات الوحدة العربية بيروت. ص121 وما بعدها.)
***
لقد أتينا على ذكر هذه الأنماط من الغيرية، إزاء “النصارى” والروم/الغرب، كما وردت في القرآن الكريم ليس فقط من أجل الرجوع إلى الجذور الأولى لعلاقة الإسلام بالغرب، بل أيضا لأن هذه الأنماط من الوعي إزاء الآخر المسيحي/الغرب قد ترسخت في ضمير المسلمين ليس فقط من خلال علاقات الجوار وصنوف الاحتكاك التي عرفها تاريخهما على مدى خمسة عشر قرنا والتي بقيت مستمرة إلى اليوم، بل أيضا لأن ورودها في القرآن جعلها تتأسس في وعي المسلمين كحقائق مطلقة، كما هو الشأن في كل ما تقرره الكتب المقدسة، خصوصا عندما تفهم من دون اعتبار “أسباب النزول”. ومن دون شك فإن ورود هذه الأنماط من الوعي بالآخر/الغرب في القرآن يفسح المجال، اليوم كما بالأمس، لتبرير المواقف التي تفرضها الأحداث والاحتكاكات وإضفاء الشرعية الدينية عليها.
إن المجال هنا ليس مجال استعراض مواقف المسلمين إزاء الغرب المسيحي، ولا مواقف هذا إزاء الإسلام، فهي مواقف متنوعة وتاريخية محكومة بالظروف. ومع ذلك فلا ينبغي أن تفوتنا الإشارة هنا إلى أن مواقف المسلمين إزاء المسيحية كانت أقل عداء من مواقف المسيحيين إزاء الإسلام. وقد تكفي الإشارة هنا إلى أن المسيحية لا تعترف بالإسلام دينا بل تعتبره بدعة وهرطقة (=نحلة منحرفة). أما الموقف من نبي الإسلام محمد (ص) فهو أبعد ما يكون من موقف الإسلام والمسلمين من النبي عيسى. ومع أن الباحث يصادف من حين لآخر في كتب التراث الإسلامي عبارات عدائية وجارحة أحيانا، إزاء المسيحيين وإزاء رجال الدين منهم خاصة، فإن عنف العبارة بل القذف الصريح للإسلام، والمتَّسِم أحيانا بالمبالغة وتجاوز الحدود إنما نجدهما بصورة أوسع وأوضح في التراث الغربي في القرون الوسطى، بل وفي كتابات بعض المحدثين من الكتاب الأوربيين، مستشرقين وغير مستشرقين.
باختصار يمكن القول إن “الغيرية” التي تعاملت بها أوروبا مع العرب والمسلمين هي دوما غيرية استراتيجية. وحتى أولئك الذي يفكرون في بلاد الإسلام بوصفها جزءا من “الشرق” الذي يتخذه الغرب موضوعا لأناه ، سواء من أجل السيطرة التي تحركها المصالح المادية، أو التي تحركها الرغبة في امتلاك سلطة المعرفة (المستشرقون)، أو التي وراءها إرضاء نزعة التعرف الفضولي السلطوي على ما في الشرق من سحر وعجائب (السياح)… حتى هؤلاء وأولئك إنما يصدرون عن غيرية استراتيجية. والأمثلة كثيرة. وقد أفاض الأخ إدوارد سعيد في ذكرها وتحليلها والتعليق عليها في كتابه الشهير “الاستشراق” ثم عاد إلى الموضوع من زاوية أوسع في كتابه “الثقافة والإمبريالية”. وفي المكتبة الأوروبية مؤلفات عديدة في هذا الموضوع نكتفي هنا بالإشارة إلى كتابين: الأول عنوانه ” L AUTRE (الآخر: بالفرنسية) من تأليف مجموعة من الباحثين بإشراف برتراند بادي ومارك سادون. والثاني بعنوان ” RACE ET CIVILISATION : L AUTER DANS LA CULTURE OCCIDENTALE, ANTHOLOGIE CRITIQUE” (العرق والحضارة: الآخر في الثقافة الغربية، مختارات نقدية) لمؤلفه CLAUDE LIAUZU.
وبما أن المجال لا يتسع لأكثر من الإشارة فسنكتفي هنا بهذه الفقرة التي يشرح فيها مؤلف الكتاب الأخير الكيفية التي أخذ الغرب يرى بها “الإسلام” في العصر الحديث. قال : “لقد أصبح الشرق مسألة ذات أولوية، لقد صار: “مسألة الشرق”. لقد دخل لفظ “الشرق” في مفردات لغتنا الجارية ليدل على فضاء يختلف اختلافا عميقا عن أوربا، فضاء يشكل جزءا من دائرة النفوذ الأوربي. ذلك لأن البحر الأبيض المتوسط يفصل بين غرب قد صار التاريخ من نصيبه وحده وبين شرق من أخص خصائصه العطالة. ومن هنا أصبح الإسلام ليس فقط ذلك الدين العدو للمسيحية بل لقد بات ينظر إليه، في آن واحد، بوصفه السبب في عجز حضارة (=الحضارة الإسلامية) من جهة، ومن جهة أخرى بوصفه لغزا محيرا بسبب قدرته على مقاومة تدخلنا وغزونا”.
وهكذا نرى أن موقف الغرب من “الإسلام” في العصر الحديث قد تجاوز “الغيرية الدينية”، التي كانت تؤسس عداء أوربا القرون الوسطى للإسلام، إلى غيرية أخرى تختلف تماما، غيرية تقوم أساسا على التوسع الاستعماري. لذلك كان من الخطأ في نظرنا الرجوع بعلاقة “الأنا والآخر” في تعاملنا ونضالنا ضد الغرب الإمبريالي إلى غيرية لم تعد هي الأساس المهيمن في تلك العلاقة. إن الغيرية التي تقوم بيننا اليوم وبين الغرب هي نفسها التي تقوم بينه وبين دول العالم الثالث، غيرية الاستعمار والإمبريالية. وإذن فمن الخطأ اختصار عداوة الغرب الاستعماري لنا، وعلى رأسه اليوم الولايات المتحدة الأمريكية، في كونه عدوا للإسلام، بل يجب أن ننظر إلى الواقع كما هو. والواقع يعطينا كل يوم ما يكفي من الأدلة لننظر إلى الغرب الاستعماري الإمبريالي على أنه عدو لدول لا تدين بالإسلام في آسيا، ولأخرى تدين بالمسيحية في أمريكا اللاتينية.
مسألة تحتاج إلى قول مفصل. وقد نعود إليها لاحقا.