المثقف والسلطة في “الآداب السلطانية”
كتبها: د. مصطفى الغرافي
لطالما كانت العلاقة بين المثقف والسلطة ملتبسة على الدوام. تستضمر توترات أوديبية حادة تتوزع نفس المثقف وقلبه أساسها صراع لا يهدأ بين رغبتين جامحتين: الارتماء في أحضان السلطان ـ الأب المستبد الذي يحتكر جميع السلط ولا يقبل أن يشاركه فيها أحد. والابتعاد عنه صونا للكرامة وإيثارا للسلامة أي “الفطام عن الدنيا” بتوصيف أبي حيان التوحيدي. ونروم في هذا المقال النظر في العلاقة الملتبسة التي جمعت السلطتين: العلمية والسياسية في سياق الثقافة العربية من خلال نوع أدبي مخصوص تمثله الآداب السلطانية، التي شكلت في تقديرنا منبعا لا ينضب لشرعنة الاستبداد وتبريره داخل منظومة الثقافة العربية.
ـ “سوق السلطان”:
يقول ابن قتيبة في “عيون الأخبار”: “حدثني سهل بن محمد قال: حدثني الأصمعي قال: قال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك: “السلطان سوق فما نفق عنده أتي به”( ).
يكشف هذا القول عن “صورة السلطان” كما تشكلت في ذهن “الخاصة” ممن حظي “بشرف” الوصول إلى “مجلس السلطان” الذي لم يكن يسمح بتخطي عتبته إلا “لأصحاب الامتياز” الذين توافرت لهم “بضاعة” خاصة يمكن أن تنفق في “سوق السلطان”. فمن هؤلاء؟
يقول الجاحظ: “السلطان سوق، وإنما يجلب إلى كل سوق ما ينفق فيها[…] وقد نظرت في التجارة التي اخترتها، والسوق التي أقمتها فلم أر فيها شيئا ينفق إلا العلم والبيان عنه”( ).
يتبين من مقالة الجاحظ أن البضاعة الرائجة في سوق السلطان هي العلم؛ وبذلك يتوضح أن “أصحاب الامتياز” هم أهل العلم من الكتاب والشعراء ورجال الدين، الذين يسمح لهم بالوصول إلى “مجلس السلطان” لـ “عرض” بضاعتهم المنتقاة بعناية حتى تلائم رغبات “صاحب السلطة”. لأنه ليس كل بضاعة مجلوبة إلى سوق السلطان تحظى بالرواج والنفاق، ولكنه نوع مخصوص من “البضاعة”. ومن هنا كان طبعيا أن يشتد التنافس بين مرتادي هذه “السوق”، لأن صحبة السلطان رغم المنافع التي يمكن أن تدرها تبقى محفوفة بالمخاطر: “مثل صاحب السلطان مثل راكب الأسد يهابه الناس وهو لمركبه أهيب”( )؛ فتقلب أهواء السلطان واشتداد التنافس بين “الشركاء في الصناعة”، وتبادل الدسائس بين المتنافسين كلها أمور تجعل صحبة السلطان خطرا محدقا والسقوط قدرا محتما. ولعل هذا أن يفسر لنا الازدواجية التي ميزت الكثير من مواقف المثقفين القدامى( ) في وتأرجحهم ما بين التهافت على ترويج بضاعتهم في “سوق السلطان” حتى يحظوا بالصحبة التي تعتبر مطمحا بعيد المنال لا يدركه إلا القلائل. وما يقتضيه ذلك من الوقوف على الأبواب والتزلف للسلطان، أو الابتعاد عن أصحاب السلطة، والتفرغ للتأليف والتدريس. وهي الطريق التي اختارها الكثيرون ممن أرادوا أن يحيوا حياة “العلماء”. لكن كيف الصمود أمام إغراءات المال والنفوذ؟ “فإن هذه العاجلة محبوبة والرفاهية مطلوبة والمكانة عند الوزراء بكل حول وقوة مخطوبة، والدنيا حلوة خضرة وعذبة حضرة”( ). “والعزلة محمودة إلا أنها محتاجة إلى الكفاية […] وترك خدمة السلطان غير ممكن ولا يستطاع إلا بدين متين، ورغبة في الآخرة شديدة، وفطام عن الدنيا صعب”( ).
ومن هنا وجدنا الكثيرين ممن فضلوا حياة الجاه والنفوذ يندفعون إلى باب السلطان، حاملين بضائعهم لعلها تلقى رواجا في “سوقه”. ذلك أن المشتغلين بـ “إنتاج المعرفة” يحتاجون إلى “سوق” من أجل تسويق بضاعتهم وتصريفها. وإذا كان المشتغلون بالعلوم الدينية يلقون إقبالا كبيرا من طرف العامة على بضاعتهم وخاصة ما اتصل منها بالقصص والمواعظ، فإن المشتغلين بالفروع المعرفية الأخرى لم يجدوا أمامهم من قنوات لتصريف منتجاتهم سوى “سوق السلطان”، الذي كان يتزاحم على بابه مثقفون يمثلون مختلف التيارات والاتجاهات. يقول التوحيدي، الذي جرب عناء الوقوف طويلا على أبواب الملوك والوزراء، مصورا ازدحام الباب بالمتنافسين: “وإني أرى على بابك جماعة […] يؤثرون لقاءك والوصول إليك منهم، وهم أهل الوفاء، ذووا كفاية وأمانة ونباهة ولياقة […] ومنهم من يصلح للعمل الجليل ولرتق الفتق العظيم، ومنهم من يمتع إذا نادم ويشكر، إذا اصطنع ويبذل المجهود إذا رفع، ومنهم من ينظم الدر إذا مدح، ويضحك الثغر إذا مزح” . وكلهم يجهد نفسه في تزيين بضاعته لأن سوق “السلطان محدودة” لا تستوعب جميع المنتجات العلمية والأدبية، لقلة المستهلكين لهذا النوع من البضائع . ولذلك كانت قلة قليلة من “عارضي” هذه السلع يلقون الترحيب؛ فغلب عليهم اليأس و”رأوا أن سف التراب أخف من الوقوف على الأبواب، إذا دنوا منها ودفعوا عنها” .
ـ الاستعلاء العربي و«الفتح المضاد”:
لقد أصبحت الكتابة في عهد بني العباس مهنة مستقلة يحترفها أشخاص يختارون بعناية للعمل في دواوين الدولة. وقد تعاظم دور الكتاب في هذه الفترة فأصبحوا يشكلون “طبقة اجتماعية” توحد المنتمين لصناعة الكتابة . ولم يكن دور الكتاب يقتصر على تحرير المراسلات “البليغة” فتقتصر ثقافتهم على اللغة العربية وآدابها، بل كان يفرض عليهم، بسبب التعدد في موضوعات الرسائل التي يحررونها، التوفر على خبرة عملية ومعرفية متنوعة كالحساب والجغرافيا. فهذه المعارف ضرورية لضبط الخراج مثلا. كما يفترض فيه الإلمام بخصوصية القرارات السياسية التي قد يتخذها السلطان ويكلف كاتبه بتحريرها؛ ففي هذه الحال لا ينبغي الاقتصار على الصياغة الفنية البليغة. بل ينبغي معرفة المقاصد السياسية التي يصدر عنها صاحب القرار، ومقام من يتوجه إليه بالخطاب. مما يقتضي الكاتب السياسي، وهو الدور الذي كان يناط بكاتب السلطان، أن يكون على اتصال بالأدبيات السياسية والأخلاقية.
ولما كان الكتاب من الموالي غالبا، وفرسا في الأعم الأغلب، فقد روجوا للتقاليد الفارسية في السياسة والحكم بأسلوب عربي “مبين” ترجمة وتلخيصا ونقلا. ومن هنا ازدهرت حركة الترجمة التي عملت الدولة على تشجيعها وتنظيمها لنقل العلوم والمعارف الأجنبية. ومع ازدهار حركة الترجمة بدأت ملامح أنموذج ثقافي جديد تتشكل. وقد كان الكتاب صانعو هذا التحول الثقافي بما نقلوا من فلسفة يونانية وآداب سياسية فارسية؛ فقد كان أغلب هؤلاء الكتاب من الموالي الذين لم يقطعوا مع موروثهم الثقافي والقومي. ولذلك عمدوا، بوصفهم النخبة الحاملة لوعي ثقافي عالم ، إلى تمرير عناصر من موروثهم إلى الثقافة العربية لتحقيق الذات أولا، ومنافسة المناصرين للثقافة الرسمية ثانيا. لقد كانت المنافسة تتركز أساسا حول من يتولى الصدارة العلمية: “البيانيون العرب” من أنصار النقل والرواية المدججون بتراث أسلافهم الشعري والأخباري، أم “طبقة الكتاب” الذين يطرحون أنموذجا ثقافيا مغايرا، يستند إلى “علوم الأوائل” و”تجارب الأمم” من القوميات الأخرى العريقة في العلوم الفلسفية والنظم السياسية.
لقد كان الصراع محتدما بين هذين النموذجين الثقافيين المتعارضين؛ حيث كل نموذج ينطلق من تصور خاص لتسيير دواوين الدولة وتدبير شؤون السياسة. فالبيانيون العرب يواجهون أنصار الثقافات الأجنبية بالانتصار للغة العربية والعلوم الدينية، ويرون أن العارف باللغة العربية والعلوم الدينية مستحق للصدارة العلمية على حساب المداولين للعلوم الأخرى:”قال ابن شبرمة: إذا أردت أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيرا، ويصغر من كان في عينك عظيما فتعلم العربية، فإنها تجزيك عن المنطق وتدنيك من السلطان” .
وقد واجه المناصرون للثقافات الأخرى هذا “الاستعلاء” العربي بالتعصب للعلوم الأجنبية، فعملوا على صياغة عدة مشروعات فكرية كان الهدف منها، بالأساس، الحد من نفوذ المثقفين ذوي التوجهات “العروبية”. كما كانت لهم تحركات سياسية لخدمة نفس الغرض. وقد تمثل ذلك في مناصرتهم لقيام دولة بني العباس، لأنهم رأوا فيها ثورة ضد الفاتحين العرب (الأمويين) لبلاد فارس، أملا منهم أن تشكل الدولة الجديدة أنموذجا بديلا للنموذج الأموي، يلغي التمايز الاجتماعي والسياسي المستند إلى العرق أو الوراثة. وقد تقصد الكتاب بانخراطهم في نقل الفلسفة اليونانية والآداب السياسية الفارسية إلباس الدولة العباسية الناشئة لباسا حضاريا قريبا من الأنموذج الفارسي الذي ما فتئوا يعتدون به أمام “الاستعلاء العربي”.
ومن هنا اكتست هذه النقول والمترجمات التي روج لها الكتاب صورة فتح حضاري وثقافي مضاد ، فقد “كان المجال الثقافي هو المجال الذي اختارته عناصر القوميات التي أسلمت لتصفية حسابها مع العنصر العربي سياسيا، الذي يدعي الشرعية الثقافية نفسها برد العلم إلى الدين وإلى لغته العربية. أما الذين لم ينسوا ماضيهم الثقافي والقومي فقد حاولوا توسيع مفهوم العلم وبناءه على أسس غير دينية وبالتالي توسيع مفهوم الشرعية الثقافية حتى يكون لهم فيها نصيب” .
لقد لقيت “مقتبسات” الكتاب من الآداب السياسية الفارسية رواجا كبيرا عند الحكام والأعيان، لأن هذه المقتبسات كانت قريبة من أنموذج الدولة الإسلامية الوليدة، الذي كان يقترب من النظام السلطوي الذي ساد الإمبراطورية الساسانية المنهارة، والتي ورث العرب أنظمتها الإدارية والسياسية.
ومن هنا ظهرت الحاجة ماسة إلى “أسلمة” الآداب السياسية التي اقتبسها الكتاب. وهو الدور الذي نهض به الفقهاء الذين سطوا على هذه المقتبسات وحاولوا إضفاء الصبغة الشرعية عليها لتقديمها في إطار إسلامي يستجيب لمقتضيات الدولة الجديدة دون الخروج عن التعاليم العامة للشريعة، مما فرض على الفقهاء إجراء بعض التعديلات على مواقفهم للملاءمة بين منطق السياسة ومنطق الشريعة. يؤكد ذلك أن الفقهاء من مستعملي الآداب السلطانية قد تخلوا عن دورهم الأساس المتمثل في تقديم النصيحة للحاكم، باعتبار الفقيه عالما يقوم بدور الرقيب على السياسة، ليتحولوا إلى مجرد “مستشارين” للسلطان. مما يؤشر على أن غرض الفقهاء لم يكن القيام بواجب “النصيحة” للسلطان بقدر ما كان التقرب إليه ونيل الحظوة عنده. في حين كان واجبهم بوصفهم فقهاء أن يقوموا بدور الرقابة على السلطة السياسية، مراقبة مدى التزام الدولة “بخطة الخلافة”، لكن التحولات الحضارية التي شهدها المجتمع الإسلامي في هذه الفترة قلصت من دور الفقهاء ( أصحاب السياسة الشرعية)، فاسحة المجال أمام الكتاب المروجين لـ”سياسة فارس”. ولم يكن أمام الفقهاء، ليتمكنوا من منافسة الكتاب، إلا السطو على بضاعتهم و”أسلمتها” بإضفاء الصبغة الشرعية عليها.
ـ الدين والسلطان أو “الإمامة والسياسة” :
يمكن اعتبار قضية العلاقة بين الدين والسياسة من أعقد المعضلات التي واجهت العقل العربي الإسلامي على اختلاف العصور والبيئات. فقد كانت على الدوام موضوعا للفحص والتأمل. كما شكلت انشغالا أساسا للملوك والفقهاء والكتاب منذ البدايات الأولى للدولة الإسلامية. ويبدأ الإشكال في الظهور عندما يتم إلحاق نعت “الإسلامية” بالدولة بالرغم من أنها حقيقة واقعية وتاريخية. فهذا النعت يواجه أحيانا بالرفض المطلق من طرف بعض المعترضين الذين ينظرون للتاريخ الإسلامي أو بعض فتراته على الأقل باعتبارها انحرافا عن “روح الإسلام”، ومن ثم يدعون للسلاطين بالهداية ليحكموا بما أنزل الله. وقد لا يقتصر البعض على “الدعاء” ولكنه يعمل على تغيير “المنكر” القائم فيدعو إلى الخروج على “السلطان الجائر”. في حين يسلم البعض بحقيقة التداخل بين الدين والسياسة، مما يترتب عنه الإقرار بافتقار أحدهما للآخر فينتفي بذلك التعارض، ليظهر إشكال آخر عندما يبدأ سيل الأسئلة يتدفق: متى يكون الإسلام سياسة؟ ومتى تصير السياسة إسلاما؟ وهل يمكن أن يتطابق المفهومان؟ وهل حدث ذلك تاريخيا؟ وإن كان فمتى؟ وتناسل هذه الأسئلة يجد مبرره في سلسلة المفارقات اللامتناهية التي عرفها التاريخ الإسلامي بين الخلافة والملك، والدين والدولة، والسلطان والقرآن، والإمامة والسياسة.
يرتبط الظهور الجنيني لهذه “الآداب” بحدث “انقلاب الخلافة إلى ملك” أي انهيار نظام “الخلافة” وظهور نظام “الملك”. ويقوم أساسا على مبدأ النصيحة لأولي الأمر بسوق جملة من النصائح والقواعد السلوكية التي تمكن الحاكم من تدبير أمور الدولة وتثبيت أركان الملك. ويرجع الباحثون “أصل” و”فصل” هذه الآداب إلى تراث فارس . يقول محمد عابد الجابري: “الحق أن الأيديولوجية السلطانية في الثقافة العربية منقولة في معظمها عن الأدبيات السلطانية الفارسية” . وقد تسللت الأدبيات الفارسية إلى الثقافة العربية عبر النقول والترجمات والتلاخيص التي أنجزها كتاب أصولهم فارسية في الغالب وعلى رأسهم عبد الله بن المقفع الذي يعتبره الجابري: “أكبر ناشر ومروج للقيم الكسروية، وأيديولوجية الطاعة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية” .
أما عن البواعث التي وقفت وراء توجه الكتاب إلى “النهل” من تراث فارس السياسي، وإغفال “تجارب الأمم” الأخرى، فترجع في رأي الجابري إلى أن “أوضاع المجتمع العربي في العصر العباسي الأول كانت تتطور في نفس الاتجاه الذي تطورت فيه أوضاع المجتمع الفارسي من قبل، وذلك عبر عملية انتقاله من دولة الدعوة والخلافة إلى دولة السياسة والسلطان” .
ولذلك لم يكن مستغربا أن يترافق ازدهار “الآداب السلطانية” في الثقافة العربية الإسلامية مع التحول السياسي، الذي كان معاوية بن أبي سفيان أول من دشنه في التجربة الإسلامية بانهيار نظام الخلافة وظهور نظام الملك، أو “انقلاب الخلافة إلى ملك” على حد تعبير ابن خلدون، فمعاوية بن أبي سفيان أول “خليفة ـ ملك” في التجربة السياسية “العربية”، ومعه ستظهر أعقد المعضلات التي واجهت الدولة الإسلامية الوليدة، تلك هي معضلة الجمع بين الخلافة والملك؛ فلم يكن “الانقلاب” الذي دشنه معاوية بن أبي سفيان مجرد تحول سياسي محض قاده فرد، لكنه كان، أيضا، انقلابا فكريا مهد الطريق لتحول الذهنية العربية الإسلامية، بحيث هيأ المجتمع الإسلامي الجديد لاستقبال الأنظمة السياسية “السلطانية”، التي بدأت مع حكم الأمويين، لتتكرس بعد ذلك مع دولة بني العباس .
لقد كان من الطبيعي أن تتأثر الدولة الإسلامية الناشئة، وقد أصبحت “ملكا”، بالموروث السياسي للإمبراطوريات التي ورثت أنظمتها السياسية وأجهزتها الإدارية، ولاسيما التقاليد السياسية لأمة “فارس” ذات التراث السياسي العريق. إذ وجد مصنفو الآداب السلطانية في هذا الموروث، بسبب تناظر الوضعية السياسية للأمتين العربية والفارسية، أجوبة حقيقية للمعضلات التي واجهت الدولة الإسلامية الوليدة، وعلى رأسها معضلة “الجمع بين الخلافة والملك”، فكان أن صرفوا جهودهم إلى هذا التراث ترجمة وتلخيصا واقتباسا.
وإذن، فقد أصبح من الواضح تماما أن عناية مصنفي الآداب السلطانية بـ”نسخ” التراث السياسي الفارسي الساساني إنما كان في الأساس استجابة لحاجة تاريخية فرضتها “المسألة الدينية” تخصيصا. ولذلك كان طبيعيا أن تتناثر المأثورات والمرويات السياسية الفارسية في تضاعيف “النص السلطاني”. وفي حال تعارض هذه المرويات مع المرجعية العربية الإسلامية وتصوراتها لما ينبغي أن تكون عليه “دولة الإسلام”، فإن الأديب السلطاني يعمد إلى تذويب التعارضات عن طريق “تهذيب” النص/الشاهد الفارسي بتلخيصه أو تعديله بل وتحويره إن اقتضى الأمر، بما يتوافق والتصور الإسلامي لمسألة تدبير الدولة.
وقد ترتب عن هذا الإجراء أن تساكن في النص السلطاني “شرع الله” و”شرع أردشير” دون أن يستشعر الأديب السلطاني إرباكا أو إحراجا في الجمع بين الضدين (شرع الله وتشريع الناس). لقد وجد الأديب السلطاني في تراث فارس السياسي “ضالته” فيما يتصل بمسألة علاقة الدين بالسياسة. إذ كانت المعالجة الفارسية لهذه المسألة مستجيبة لأفق انتظار السلاطين المسلمين منذ عهد الأمويين، حين برزت “نفسية” جديدة متطلعة إلى أبهة “الملك” وبذخ “السلطنة”. وقد وجد هؤلاء الخلفاء ـ السلاطين في ملوك بيزنطة أنموذجا عريقا طوته الأيام فعملوا على بعثه وتجديده وإعادة إنتاجه اقتباسا وتقليدا . وهو ما رصده أبو حيان التوحيدي ـ شاهد العصر الأليم عندما سجل أن الحال استحالت عجما: كسروية وقيصرية. “…فأين هذا من حديث النبوة الناطقة والإمامة الصادقة، هذا الربيع، وهو حاجب المنصور، يضرب من شمت الخليفة عند العطسة، فيشتكي ذلك إلى أبي جعفر المنصور، فيقول: أصاب الرجل السنة وأخطأ الأدب. وهي الجامعة للآداب النبوي والأمر الإلهي، ولكن لما غلبت عليهم [الخلفاء والسلاطين المسلمون] العزة ودخلت النعرة في آنافهم، وظهرت الخنـزوانة [الكبر] بينهم سموا آيين العجم [عرفهم وعاداتهم وهي كلمة فارسية] أدبا وقدموه على السنة التي هي ثمرة النبوة” .
لقد سعينا في هذا المقال إلى فحص علاقة المثقف بالسلطة، كما تجسدت في الثقافة العربية، من خلال نوع أدبي مخصوص هو الآداب السلطانية. قاصدين من ذلك إلى تبين مدى شرعية السلطة التي يدعيها المثقفون العرب المعاصرون لأنفسهم بوصفهم “قادة الفكر” و”صناع الوعي”. وقد رأينا أن يكون مدخلنا إلى تحقيق هذا المقصد الأسنى البحث في واقع ومآل المثقف في نظامنا الثقافي القديم، حيث تحصلنا من هذا البحث على جملة من النتائج أظهرها أن السلطة العلمية كانت على الدوام، في نظامنا الثقافي، هشة في مقابل السلطة السياسية التي كانت تنجح دائما في احتواء المثقف وتسخيره أداة دعائية لتنفيد مشاريعها والترويج لمخططاتها.