البلاغة والإيديولوجيا – بحث في العلاقة الملتبسة بين المعرفة البلاغية والمطالب الإيديولوجية
كتبها: د. مصطفى الغرافي – باحث في البلاغة وتحليل الخطاب.
لعلنا نتفق جميعا على أنه لا توجد معرفة بريئة، فالحياد النصي وهم إيديولوجي والبراءة الفكرية ضرب من المستحيل، ما دام كل خطاب معرفي يهدف -بالضرورة- إلى تمرير حمولة إيديولوجية. إن الإيديولوجيا ثاوية في الخطابات جميعها، وليس ثمة خطاب – من وجهة النظر هاته- يمكن أن يعرى تماما من الإيديولوجيا. في ضوء هذا الفهم سنحاول في هذا البحث إجلاء العلاقة الملتبسة بين المعرفة البلاغية والمطالب الإيديولوجية.
في تلازم البلاغي والإيديولوجي:
إن المتتبع لنظرية الأدب وتاريخ الأفكار يستطيع أن يستخلص أن ارتباط البلاغة بالخطابات الإيديولوجية عامة، يمكن أن يرتد إلى السوفسطائيين الذين اشتهر عنهم استخدام “العتاد البلاغي” من أجل استغواء المخاطبين واستقطابهم[1]. وهذا التلازم بين البلاغي والإيديولوجي ليس منفكا عن الرغبة في السيطرة وبسط النفوذ، ذلك أن هاجس السلطة أي سلطة إنما يتمثل في تحصيل “الشرعية”، التي تضمن لسلطانها الاستقرار والاستمرار هو مطلب عزيز ليس يسلم للسلطة إلا بكثير من القوة والعنف، ثم ما تلبث السلطة أن تدرك –بتوجيه من حدسها الطبيعي وتجربتها الواقعية- أن السلطة لا تستطيع الاستمرار إذا اقتصرت على القوة والعنف لانتزاع الاعتراف بشرعيتها، فتتوجه –من ثم- إلى البحث عن أساس مكين يسند استقرارها ويضمن استمرارها. وليس من سبيل إلى ذلك إلا بتقبل الذوات السياسية تلقائيا للسلطة ومصادقتهم عليها على سبيل الرضا والموافقة، وليس على سبيل القهر والإرغام. وهو ما تفطن إليه جاك روسو – أبرز المنظرين لـ”النظرية التعاقدية” بين الحاكمين والمحكومين، فقد قرر في كتابه “العقد الاجتماعي” أن “الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كاف من القوة ليكون دائما هو السيد إن لم يحول قوته إلى حق والطاعة إلى واجب”[2].
و بما أن هذا الصنف العميق من الاعتقاد في شرعية السلطة القائمة لا يمكن تحصيله بالقهر والعنف الماديين، فإنه يصبح “من الضروري اللجوء إلى نوع آخر من العنف، نوع أكثر لطفا وتهذيبا وخفاء هو “العنف اللفظي” أو “العنف الرمزي”، وقد ارتبط خطاب السلطة دوما بسلطة الخطاب، وكلمات السلطة بسلطة الكلمات، وبهذا المعنى فالبلاغة ليست مجرد حلية ترفيه جمالية في الخطاب الإيديولوجي، بل هي براعات ذات وظيفة”[3].
إن البلاغة واجدة في الإيديولوجيا حقلا تطبيقيا خصيبا للعديد من سماتها ووظائفها. ومن هنا وجدنا الصلة تنعقد وثيقة بين الايديولوجيا والبلاغة، إذ الايديولوجيا –في المطلق- ليست سوى مجلى من مجالي البلاغة. وليس من سبيل إلى تبين أوجه هذه العلاقة من غير تحديد سمات الممارسة الإيديولوجية. وهو ما نستعين فيه بدراسة لبول ريكور ترصد فيها أهم الخصائص الواسمة للإيديولجيا وقدحصرها كما يلي:[4]
1- الايديولوجيا محرك اجتماعي تنشر الأفكار وتصنع القناعات عبر التحريض على الفعل وتبريره.
2- الايديولوجيا منتسبة –في هذا المستوى- إلى ما يسميه ريكور “نظرية الحافز الاجتماعي”. إنها تتحرك لإظهار أن الجماعة التي تجاهر بها هي محقة في أن تكون ماهي عليه. لكن كيف تحافظ الايديولوجيا على ديناميتها؟ الجواب كامن في سمتها الثالثة:
3- كل إيديولوجيا هي مبسطة وخطاطية، إنها شبكة لتحديد نظرة شاملة ليس فقط إلى الجماعة بل وللتاريخ، وفي الحد الأقصى للعالم، وهذا الطابع المسنن للايديولجيا ملتحم بوظيفتها التبريرية، لكن هذه القدرة على التغيير مشروطة بتحول الأفكار التي تنشرها إلى آراء ومعتقدات. وفي هذه الحال تفقد الأفكار صرامتها لتزيد من فعاليتها الاجتماعية. وعلى هذا النحو يتحول كل شيء إلى إيديولوجيا: الأخلاق، الدين، الفلسفة…
وهذا التحول من نسق فكر إلى نسق اعتقاد هو جوهر الظاهرة الأيديولوجية.
يسمح هذا الملمح (الثالث) بملاحظة الطابع الاعتقادي للايديولوجيا، حيث المستوى الابستمولوجي للايديولوجيا هو مستوى “الرأي”، مستودع الاعتقاد عند الإغريق، لأجل ذلك فإن الايديولوجيا تعبر عن نفسها طوعيا من خلال الأمثال والشعارات والصيغ الموجزة، ومن ثم فلا شيء أقرب إلى البلاغة- فن الحكمة والإقناع من الايديولوجيا.
4- الايديولجيا تعبير عن مقاصد عملية أكثر منها تعبيرا عن منازع نظرية، حيث القانون التأويلي للايديولوجيا كامن فيما يتعوده الناس، ويؤمنون به أكثر من تصورات يتحركون نحوها.
5- الايديولوجيا مطبوعة بالجمود، ترفض الجديد وتسعى إلى المحافظة على الأنموذج القائم من خلال صيغة “التمثيل”، وهو ما يجعل الايديولوجيا في نفس الآن تأويلا للواقع وحشدا للممكن، وبهذا المعنى يمكن الحديث عن “السياج الإيديولوجي” بل “العمى الإيديولوجي”.
إن الناظر في سمات الايديولوجيا كما تحددت عند بول ريكور ليخلص فعلا إلى تبين أوجه الصلة الجامعة بين البلاغة من جهة، والممارسات الإيديولوجية من جهة ثانية. فالبلاغة تتحدد أساسا بوصفها فعالية خطابية واستدلالية يتوسلها المتكلم لعرض فكرة أو فرض نظرية، وفي الحالين تقوم البلاغة سياسة في القول مخصوصة يتلطف منها المتكلم إلى تحصيل مطلوبه: حمل المخاطب على الإذعان والتسليم بما يلقى إليه من مضامين وإن لم يعتقد فيها حقيقة قائمة، لأن التعويل في مقامات التخاطب التي قصدها التأثير إنما يرتكز على سحر البيان وسلطة الكلام، وليس صحة “المعلومة” أو صدق الخطاب. وفي هذا المستوى تظهر الصلة وثيقة بين العتاد البلاغي والممارسة الإيديولوجية، إذ الخطاب –في المطلق- واقعة تواصلية تلتبس فيها المقومات البلاغية بالمقاصد الإيديولوجية، فالخطاب –كل خطاب_ متضمن بالضرورة لمقتضى حجاجي واستدلالي، بما هو “رسالة” صادرة من باث إلى متقبل قد يكون فردا أو جماعة أو شعبا أو الإنسانية جمعاء، الغرض من بثها وإلقائها إيقاع التصديق والحمل على الاقتناع. وهو مقصد تأثيري وإقناعي يستند –بالتأكيد- إلى تصورات المجتمع المرتهنة إلى الرأي الشائع والقناعات المشتركة، إذ لا يمكننا أن نتصور “متكلما” يعي ما يقول يمكن أن يتوجه إلى رفض ما أطبق الناس على الاعتقاد فيه، أو دحض ما أجمعوا على رفضه وإنكاره. وعند هذه النقطة (الاقتناع استنادا إلى الرأي الشائع والمشترك) ينفتح المجال وسعيا لتلبس البلاغي بالإيديولوجي.
ـ سحر البيان: القول سلطان
إن الناظر في علاقة البلاغة بالايديولوجيا سيلحظ التباسا وتعقيدا يطبعان –من غير شك- هذه العلاقة، ذلك أن الايديولوجيا تسخر البلاغة أداة حين تضطلع بدور تبريري ملازم لدورها القيادي –كما نبه على ذلك بول ريكور- وفي هذه الحال لا تعدو البلاغة أن تكون “تقنية” في يد الايديولوجيا تصطنعها خدمة للمقاصد. وهي بذلك تمثل الجانب التبريري في الايديولوجيا، ذلك أن الإيديولوجيات السياسية والاقتصادية جميعها صيغت بطرق استعارية[5]، لكن تدقيق النظر في هذه المسألة من شأنه أن يقود الباحث لأن يستخلص أن البلاغة –من جهة مقابلة- خاصة عندما ترتبط بالمقاصد، كما هي متجسدة في مباحث الحجاج، عبارة عن خطاب عملي وظيفي وغائي مستند إلى خلفية إيديولوجية في عرض القناعات والتعبير عن المعتقدات. وبذلك تغدو البلاغة ضربا من الايديولوجيا: تحتج وتبرر، تستدل وتسوغ لحمل المخاطب على الإذعان وإن لم يحصل له اقتناع حقيقي، بما يؤشر على تغليب لـ “الغائية” واحتكام لـ”القصدية” في سعي لتحويل “الرأي” إلى “عقيدة”.
إن البلاغة بوصفها فن الاقناع بالرأي – كما يعتقد كثيرون- لهي “الايديولوجيا” عينها، إنها رؤية للكون وموقف من الوجود متى اعتنقناهما تحولنا من مجال الاقناع بـ”رأي من آراء” إلى الحمل على الإذعان لـ”عقيدة” تفرض فرضا.
وبهذا الفهم تغدو البلاغة ممارسة خطابية تنقل “البلاغي”، إذ يلتبس بـ”الإيديولوجي”، من مجال الإمكان والاحتمال إلى مجال البداهة والمصادرة على المطلوب، لأن “الما صدق” ليس شرطا في الحجاج الناجح كما هو مقرر عند علماء الحجاج ومنظريه[6]. فالبلاغة كما نص على ذلك التوحيدي “تحق الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه، ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تأتلف، وأمور لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر وإباء وإذعان وعدل وعدول وكفر وإيمان”[7]. ومن هنا كان المتكلم “لا يعد في المجادلين الحذاق حتى يكون، بحسن بديهته وجودة عارضته وحلاوة منطقه، قادرا على تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق”[8]. صحيح أن الحق في المطلق واحد ولكنه في تجلياته العملية نسبي، وفي هذا المستوى تظهر الحاجة إلى “البلاغة” سياسة في القول مخصوصة، قادرة على قلب الحق إلى باطل والباطل إلى حق[9].
ومن الواضح أن الحقائق لا تنقلب في أعيانها ولكن في صورها اقتدارا من البليغ وتمهرا في فنون القول وسحر البيان، فكما أن السحر لا يغير من الواقع شيئا وإنما الساحر يجري التغيير في عقول المستمعين، كذلك البليغ يستطيع بما يصطنع من إفصاح بالحجة ومبالغة في وضوح الدلالة من بلوغ أعلى مراتب التأثير العقلي والعاطفي في متلقيه، بما يكفل تحصيل المتكلم لمطلوبه في تكييف عاطفة السامع وتعديل اعتقاده على نحو يستجيب لمقاصده ومراميه.