شاييم بيرلمان : فلسفة الحجاج القانوني
نص للفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان.
ترجمة: أنوار طاهر– باحثة من العراق- مختصة في حقل الدراسات الفلسفية
فلسفة الحجاج القانوني – بين شمولية السلطة وعنف الأيديولوجيا *
إن التظاهرات السياسية وحملات العصيان المدني والاستنفار الأكاديمي، التي انتشرت في جميع أنحاء العالم خلال السنوات الأخيرة، جرى عرضها في كل مكان تقريبا، بوصفها تمردا على السلطة autorité التي ما أن أصبحت مرادفا لمفهوم القوةpouvoir وذلك نتيجة لاستعانتها بقوة البوليس العام، بدأت تشكل تهديدا مستمرا تجاه الحريات الفردية.
وقد تناول الفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت مل، ومنذ أكثر من قرن، لقضية التعارض القائم بين السلطة والحرية، وذلك في دراسته المعروفة: حول الحرية ” On liberty ” والتي اقتبِس منها النص التالي :
»إن الصراع بين كل من الحرية / والسلطة هو من السمات الأكثر وضوحا في تلك العصور التاريخية المألوفة بالنسبة لنا، بدء من اليونانية والرومانية وحتى الانجليزية… حيث كانت تعني الحرية، الضمان والحماية ضد طغيان الأنظمة السياسية… ففي الماضي البعيد، كان الحاكم عموما يتمثل في شخص واحد؛ أو في قبيلة أو في طائفة، وكان يستمد سلطته من الحق في الإرث أو في الغزو والفتح، وفي جميع الأحوال، هي سلطة لا تؤخذ برضا المحكومين، الذين لا يمتلكون الجرأة الكافية، أو ربما لا يرغبون، في مواجهة نفوذها، مهما كانت نوع الاحتياطات التي يمكنهم اتخاذها ضد ممارساتها القمعية «(1).
ويُلاحظ فيما بعد أن جون ستيوارت مل، لم يعد يستعمل مصطلح ” السلطة ” autorité ، مستعيضا عنه، على الدوام، بمصطلح ” القوة ” pouvoir ، كما لو أنهما مترادفان. لكن، هل يمكن استبدال الواحد منهما بالآخر ؟ فإذا ما قلنا عن أولئك المتحكمين بزمام القوة، أنهم يمثلون “روح السلطات وجوهرها “، فهل يعني ذلك اعترافا منا بشرعية نفوذهم، التي ما أن تتلازم معها بالضرورة، ممارسات تقديم فروض الطاعة والولاء والتزلف، حتى نمضي قدما في التعامل مع كل من مفهومي “السلطة” و “القوة” بوصفهما مترادفين. وهذا ما أشار إليه الفيلسوف اللساني الفرنسي إميل ليتريه LITTRÉ ÉMILE، في ملاحظة له ذكرها في قاموسه الكلاسيكي الشهير ،حول مفردة autorité، حينما سلّم أن »هناك جانب معين في استعمال مصطلحي السلطة والقوة يجعلهما متقاربين من بعضهما البعض «،لكنه عاد ليستدرك: »إلى انه لما كانت السلطة هي من تسمح بشيء ما، والقوة هي من تقدر على تنفيذه. لهذا، دائما ما تتوفر السلطة على ملمح من التأثير المعنوي/القيّمي morale الذي لا تنطوي عليه القوة بالضرورة «.
في الواقع، أن التعارض بين كل من مفهومي: السلطة والقوة، مثلما هو الحال عليه بين الوقائع والقانون، استمر حتى القرن الثامن عشر. لذلك، نجد أن الأسقف وفيلسوف الأخلاق الانجليزي جوزيف بتلر Joseph Butler، في موعظته الثانية، قد جعل من قوة الانفعالات le pouvoir des passions مناقضا لسلطة الوعي l’autorité de la conscience؛ ومن ما ينبغي الالتزام به من معايير مسيطِرة مخالفا لما ينبغي الخضوع له بسبب تفوقه الأخلاقي(2). فكلمة السلطة في اللغة اللاتينية L’auctoritas، تعبر عن كل ما يأمر به الحاكم ويُصِادق على صلاحيته، بإرادة من المحكومين. ومن ثمة، فهو إذن، يقوم بتحوير مفهوم الإرادة ليكون تعبيرا عن “فعل” غير نافد الصلاحية من الناحية التشريعية، عديم الفاعلية من الناحية القضائية في آن واحد.
والى ذلك النوع من التعارض، أشار أيضا الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان في تقريره التاريخي والموسوم: الديمقراطية والسلطة “Démocratie et Autorité “،والذي نُشر في المجلد الثاني الذي كرسه المعهد الدولي لفلسفة السياسة لموضوعة القوة. وطرح فيه تعريفين اثنين :
» نعني بـمصطلح “السلطة ” حق الحكم وفرض الأوامر من جانب الحاكم، وواجب الطاعة والخضوع له من جانب المحكومين؛ أما مصطلح “القوة ” فنقصد به ما نملكه من نفوذ يمكننا من إجبار الآخرين على السمع والطاعة. فالإنسان العادل المحروم من كل أشكال القوة والمحكوم عليه بتجرع السم، لا يُدني – بل يُعلي – من سلطته الأخلاقية. أما اللص أو الطاغية، فهم يبطشون بقوتهم دون أن يتوفروا بالضرورة على السلطة. وهذا ما جعل من مؤسسات مثل مجلس الشيوخ الروماني القديم والمحكمة العليا للولايات المتحدة، مؤسسات تستعرض لسلطة كبيرة غير متماثلة بالضرورة مع مقدار ما تؤديه في الواقع من وظائف ضمن نظام القوة المتَنَفِّذ… فمن اجل أن تحقق السلطة تأثيرا كاملا على الحياة الاجتماعية، لابد وأن تستند على مبدأ القوة ( بغض النظر عن أن يكون نموذج تلك القوة مشرع له قانونيا )، وبدونه ستكون السلطة غير فعالة وغير متنفِّذة وعديمة التأثير على الشعب. كل قوة لا تعبر عن سلطة ما، ستكون قوة ظالمة. من هنا، كان الفصل بين القوة والسلطة، يعني الفصل بالضرورة بين النفوذ والقانون« (3).
ولطالما أكد الكاتب الفرنسي برتراند دي جوفنيل في دراساته المتميزة: “حول القوة Du Pouvoir” و ” حول السيادة De la
Souveraineté ” على أهمية السلطة في مجال السياسة، حيث : » أطلق مفهوم السلطة على مدى القدرة في كسب قبول الآخر. أو بالأحرى، هي من يمثل السبب الفعال في تحشيد الجموع طوعيا، ذلك الحشد الذي أرى فيه ممارسات السلطة المتنفِّذة بوضوح كبير جدا.
لا شك في أن لكل مؤلف الحق في استعمال أي كلمة ضمن المعنى الذي يختاره شريطة أن لا يكون استعمالا خارج السياق العام والمألوف. لكننا رغم ذلك نقع في الالتباس حول مسألة فيما إذا كان المعنى المعطى للكلمة ليس بقريب من معناه المعتاد. وعلى ما يبدو إنني وقعت أيضا في تلك الحالة، وذلك لأن هناك الكثير من يعمد إلى المماثلة بين مصطلح الحكومة الاستبدادية ” gouvernement autoritaire “؛ وبين الحاكم الذي يلجأ إلى الاستخدام المفرط للعنف، قولا وفعلا، من اجل إخضاع الشعب له، فحاكم مثل هذا، وحسب رأيي، إنما يفتقر إلى السلطة الكافية للاضطلاع بوظائفه على الوجه الأمثل، لذلك نراه يلجأ إلى ردم تلك الفجوة بأداة الترهيب. من الملاحظ أن هذا الانحراف الحاصل في معنى كلمة السلطة، هو حديث العهد، ومحاولتي إنما تأتي لغرض إعادة وضعه في مجرى سياق معناه التقليدي الأصلي« (4).
ولفت جوفنيل إلى أننا نلمح ذلك التحريف في استعمال مصطلح السلطة، عند من يماثل بين كل من: سلطة القانون والخوف من العقاب، رغم أنه في الواقع، لا ينبغي لقوة البوليس التدخل إلا عندما لا يصبح الاحترام الواجب أمام القانون مبدأ كافيا في تجنب انتهاكه.
لهذا، غالبا ما يلازم عرض خطاب السلطة حضورا/وسيطرة لنزعة معيارية، فلابد من قواعد محددة ينبغي إتباعها أو الخضوع لها، كسلطة الحكم المقضي فيه، أو سلطة العقل أو سلطة الخبرة. في الواقع، إن من يملك القوة دون سلطة، قد يجبر الآخرين على الخضوع له، لكن ليس على احترامه.
نلاحظ أن مفهوم السلطة في التقليد اليهودي-المسيحي، لا يرتبط بالقانون، وإنما بقواعد القيم الأخلاقية morale، وهو ذو صلة مباشرة بمبدأ الاحترام. من هنا، نجده مفهوما يُمَثل في أنموذج سلطة الأب على أولاده، فهو الذي يُعلمهم ويُرشدهم حول ما ينبغي القيام به وما يلزم تجنبه، وذلك ما يلقنهم إياه عبر التقاليد والعادات وأعراف الوسط العائلي والاجتماعي الذي سينضمون إليه لاحقا. إن السلطة المستمدة من الأب هي نفسها التي للمعلم، الذي يحدد لتلاميذه الطريقة الصحيحة في القراءة والكتابة، وما ينبغي عليهم اعتباره صحيحا أو خاطئا. فالقول المأثور: المعلم قال بذلك، magister dixit (هو قول حقق للفيلسوف فيثاغورس مكسب ضمان خضوع تلاميذه الكامل لكل الحقائق المطروحة دون فحص واختبار او حتى إبداء رأي أو فتح جدال) هو أفضل مثال على تبرير عمل السلطة. على أي حال، لا يمكن أن يتشكل حضور مبدأ المساواة سواء في العلاقة بين الأب وأولاده الخاضعين لسلطته الأبوية، ولا في تلك العلاقة القائمة بين المعلم وتلاميذه في المدرسة الابتدائية. لأنه في واقع الأمر، كل تربية، بل وكل تعليم، في أي حقل كان، لابد وان يتأسس على مرحلة من التلقين، حيث يكون فيها من العبث الاعتراف بمبدأ مساواة المُلقِن مع المُلقَن له. فمن اللازم منح بعض من السلطة للشخص المسؤول عن التعليم، حتى وإن كان تعليما لتلاميذ بالغين.
فإذا ما قصدت معلما من اجل أن يعلمني أصول علم الكيمياء أو أسس اللغة الصينية، ينبغي حينها، سيما في مرحلة التعليم الأولى، أن امتثل إلى توجيهاته وتعليماته. لان ما يعرضه المعلم من انتقادات يفترض المعرفة بالحقل الذي يشتغل عليه. ولهذا السبب، نجد انه من الطبيعي أن يكون التعليم الابتدائي أكثر دوغمائية من التعليم الثانوي، وان تكون سمة التعليم الجامعي هي التدرب على التفكير النقدي. وهذا على أي حال لا يتعلق بمسألة السن والمستوى التعليمي فحسب، وذلك لأنه حتى في التعليم الجامعي، هناك مواد دراسية غير معروفة للتلاميذ، مثل اللغة الصينية، تحتاج حتما إلى دورة من التلقين والتعلم، لكن ذلك سيحصل على أساس من الاعتياد المسبق على التفكير النقدي في مواد ومقررات علمية أخرى.
إن استبعاد الفيلسوف الفرنسي ديكارت لأي دور للتربية، بأحداث قطيعة مع سلطة الماضي، قاده إلى افتراض وجود أفكار فطرية في ذهن كل كائن عقلاني، وهذا ما قاد الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو يمضي في مؤلفه “إميل أو عن التربية” إلى بناء نظرية غريبة بعض الشيء، بدعوى أن لا مكان لتدريس العلوم للأطفال، بل ينبغي عليهم اكتشافها بوسائلهم الخاصة. لكننا أصبحنا على علم اليوم، أن المناهج ذات الفاعلية العملية تستلزم ضرورة وجود المعلم الذي يتوفر على الكفاءة وروح الإبداع أكثر بكثير من تلك التي تتطلبها المناهج التقليدية التي يمكن أن يستعاض فيها، عند الحاجة، عن المعلم بكتيب تعليمي موجز.
بالطبع، أن من غير المعقول إنكار الدور الأساسي لسلطة الأب والمعلم تجاه الأطفال الصغار. لكن المشكلة الأساسية تكمن في تحديد المرحلة والطريقة التي ينبغي أن تنتهي فيها علاقة السلطة تلك، لتفسح المجال تدريجيا لعلاقة من التعاون والتبادل النقدي. والاهم من ذلك أيضا، تحديد الدور الذي ستلعبه السلطة داخل بنية العلاقات بين البالغين.
نلاحظ كثيرا انه قد أصبح من الرائج في مجال السياسة أو مجال الدين، أن يتم الاستعانة بصورة الأب من اجل التعبير عن الاحترام والتقديس الواجب تقديمه تجاه زعيم كاريزمي. فالأب بالنسبة للوطن يمثل “ميتافورا” للزعيم السياسي، الذي كانت/ وستكون أفعاله خلاقة ومحصنة على الدوام. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الآباء المؤسسين ” Founding fathers” للولايات المتحدة الأميركية، هم الأجداد الذين قاموا بصياغة الدستور الأميركي ومن ساهموا / ولا زالوا يساهمون في ترسيخ الاحترام والامتثال لذلك الدستور. إن عبادة الأسلاف شائعة جدا في اغلب البلدان الأسيوية والأفريقية. لكنها معروفة بصورة لافتة للنظر أكثر في التقليد اليهودي-المسيحي، ففي سبيل إظهار ما ندين به للرب من مشاعر حب واحترام، ندعوه بـ” أبينا، ملكنا “، حتى أن الصلاة اليومية سواء في الديانة اليهودية؛ أو في الديانة المسيحية، تبدأ عادة بكلمات معروفة للغاية: ” أبونا الموجود في السموات “. فأضحى قس الكنيسة قابضا، في آن واحد، على سلطة الأب وعلى سلطة المعلم ، طالما كان هو الذي يدرك الحقائق الصالحة والضامنة لخلاص العباد المؤمنين.
[Tweet “يُعتبر الإله في التقليد العبري هو الحافظ للسلطة السياسية. ولا يمكن التشريع لسلطة نظام ملكي إلا بتفويض ديني”]
يُعتبر الإله في التقليد العبري هو الحافظ للسلطة السياسية. ولا يمكن التشريع لسلطة نظام ملكي إلا بتفويض ديني، ليصبح الملك خادم السيد المسيح خليفة الرب. فكل سلطة سياسية تصدر عن الرب، مسؤولة بالضرورة أمامه.
وقد استعمل ميتافور الأب هذا، في العصور الوسطى أيضا، للتعبير عن علاقة السيد مع العبيد، وفيما بعد، من اجل تحسين صورة علاقة الكولونياليين مع الناس الملونين ” أطفالهم الكبار ” حسبما يصفونهم به. إن النظام الأبوي/البطريريكي paternalisme الذي يعبر عن ذلك الاتجاه يفتقر كثيرا اليوم للمصداقية والاحترام.
إن التقليد الفلسفي الغربي منذ سقراط وحتى يومنا هذا، طالما وقف بالضد من مبدأ السلطة، بحجة البحث عن الحقيقة، التي جرى بسببها إدانة سقراط بكونه معارضا لايديولوجيا السلطة الأبوية/البطريركية. وفي وقت لاحق، عدّ الفيلسوف التجريبي الإنجليزي بيكون السلطات التقليدية نقيضا من سلطة المعاني والتجربة، التي اعتبرها الفيلسوف الفرنسي ديكارت مناقضا للعقل. وخلال صراعه مع الكنيسة، رأى عالم الرياضيات والفلك الايطالي غاليلو أن سلطة الإنجيل وسلطة أرسطو المطلقة تقع على النقيض مع كل من: الملاحظة والمنهج التجريبي. لقد اعتبر فلاسفة عصر الأنوار كل الحقائق المفروضة تحت ذريعة السلطات الدينية أو العلمانية، هي إدعاءات وأحكام مسبقة تفتقر للموضوعية.
من المؤكد، أنه كلما توفرت مناهج مؤسَسة على التجربة، تسمح بأختبار وفحص قيمة إثبات/إدعاء ما، وملاحظة صلاحية فاعليته على الدوام. سوف لن تعلو عليها اي سلطة كانت، وسينظر إلى الواقعة بعين الاعتبار أكثر بكثير من سلطة عمدة المدينة. فإذا ما استعنا سواء بالتجربة أو بالحساب، واستطعنا إن نصل إلى النتيجة نفسها، دون خطأ. عندها، لا تصبح فكرة اللجوء إلى سلطة معينة، عديمة الجدوى فحسب، بل وغير مألوفة بشكل كاف أيضا. فمن اجل الإقرار بأن واحد + واحد + اثنان = أربعة، هل نحن في حاجة إلى سلطة تثبت ذلك : عندما يتوفر الجميع على مناهج تطبيقية، تقود كل واحد منهم إلى نتيجة واحدة، حينها فقط، سيتحقق مبدأ المساواة بين الجميع، ويصبح التذرع إلى سلطة ما، بكل بساطة، فكرة مثيرة للسخرية.
غير أن التقليد الكلاسيكي المؤسَس، ولعدة قرون، على اعتبارات دينية تارة، وفلسفية تارة أخرى، عمل على ترسيخ الادعاءات بوجود جواب صائب وصالح في حل جميع المشاكل الإنسانية المطروحة بشكل جلي. إنه الجواب، الذي يعلمه الإله منذ الأزل، وينبغي على كل كائن عاقل أن يسعى حثيثا لاكتشافه.
لكن، علينا أن نتساءل هنا، هل يوجد، في الواقع، لكل سؤال يمكن أن يطرحه الإنسان بصورة عقلانية، جواب واحد وصائبا بالضرورة ؟ وهل يمكننا الاعتراف بإمكانية الوصول إلى حقيقة واحدية، أو على الأقل بوجود مناهج تسمح بأختبار كل فرضية خاصة بتلك الحقيقة وبإمكانية صياغتها ؟
لا يمكن إنكار أن عددا كبيرا من العلوم سيما المتعلق منها بالمعرفة تحديدا، ينبغي أن يسود فيها مثال الحقيقة على جميع الاعتبارات الأخرى. لكن عندما يتعلق الأمر بالسلوك، وتمييز العادل من الظالم؛ والجيد من السيئ، وما يتصل بمعرفة الدوافع التي تحثنا على القيام بفعل ما؛ أو إلى اجتنابه. هل توجد فعلا، حقيقة موضوعية تحدد طبيعة السلوك الأفضل في اتخاذ قرار ما أو اختيار معين ؟ إن لم يكن كذلك، هل يمكن أن يكون العقل هو الذي يقودنا في إنتاج أفعالنا ؟ ألا تحمل فكرة القول بوجود عقل عملي كما اعتقد بها الفيلسوف الانجليزي هيوم ، تناقضا مفاهيميا في ذاتها ؟
فأنا على الرغم من اعتقادي الشخصي بوجود دور للعقل العملي، إلا إنه مجرد دور سلبي، يتلخص في أنه يسمح بأن نستبعد الحلول المخالفة لما هو عقلاني. لكن لا يوجد ما يضمن لنا وبطريقة عملية وجود حل صحيح واحد. إذن، في هذه الحالة، إن لم يكن هناك حلا واحدا نافعا في المسائل العملية، كذلك الذي يقدمه لنا الجواب الصائب في المسائل النظرية، فسوف لن تكون اختياراتنا في حل مشاكلنا مستمدة بعد ألان من العقل بل من الإرادة volonté .
ومن وجهة النظر أعلاه، أصبحت القوانين والقواعد الإلزامية في الدولة، تعبيرا عن إرادة الملك العليا المفروضة على كل القوانين التي جرى تسييسها وبما يتلاءم مع مصلحته الخاصة، وذلك حسب آراء العديد من فلاسفة النظرية السياسية منذ السفسطائي تراسيماك الذي عرّفنا به أفلاطون وحتى ماركس.
وإذا حصل ما يخالف رؤية منظّري الحق الطبيعي التي تستند على وجود قواعد موضوعية غير نافدة صلاحية، تقع على عاتق المشرِّع مهمة البحث عنها وسنها قانونيا، إذن تلك القواعد الإلزامية معبرة عن إرادة المشرِّع، وسيكون من الطبيعي أن يطالب الأفراد الملزمين بتطبيق تلك القوانين، بالمساهمة في تشكيلها وتطويرها وبحقهم في منح تصويتهم بالموافقة عليها بصورة مباشرة أو عن طريق ممثليهم في البرلمان. هكذا، ومنذ الوثيقة العظمى Magna Charta عام 1215 التي تعهدت للنبلاء وللبرجوازيين بأن لا تُفرض أي ضريبة عليهم دون موافقتهم، بدأنا نشهد تطورا تدريجيا للايديولوجيا الديمقراطية التي أصبحت السلطات، وفقا لها، لا تستمد شرعيتها من الإله أو من ممثليه من رجال الدين على الأرض، وإنما من الأمة وأعضائها المنتَخَبين.
هناك تعارض واضح بين مفهوم الايديولوجيا الديمقراطية مع فكرة وجود قواعد موضوعية غير نافدة الصلاحية سيما فيما يتعلق بالسلوك الانساني، لأننا لا يمكن أن نقرر عن الأغلبية ما هو الصائب من الخطأ. فمن كان يعتقد من أمثال فيلسوف النظرية السياسية الانجليزي جودوين GODWIN التلميذ الاناركي لـفيلسوف القانون الانجليزي ومؤسس مذهب النزعة النفعية Utilitarisme، بنتام BENTHAM، في إمكانية إيجاد مبدأ يحدد موضوعيا ” ما هو السلوك ألاكثر نفعا لأكبر عدد ممكن من الناس “، نجدهم وقفوا على طرفي نقيض مع فكرة ضرورة الحاجة إلى مشرِّع يعمل على صياغة قواعد سلوكياتنا. أما فيما يتعلق بالمسائل العلمية، فليس هناك ما يدعو إلى فرض سلطة للمشرِّع. طالما، كان مرسخا لدى وعي الأفراد مجمل المقاييس الموضوعية للصواب وللخطأ، تغدو فكرة الاستعانة بأي مشرِّع كان، ليست مضجرة فحسب، بل ومثيرة للسخرية تماما.
لكن إذا كانت المذهب الاناركي anarchie لا يعني بالنسبة لنا فقط، غياب الحكومة وإنما الفوضى أيضا، فهذا يعود إلى انه عندما يتعلق الأمر بأتخاذ قرارات معينة أو بأعداد قواعد محددة أو بأختيار أشخاص بعينهم لأداء عدد من الوظائف، يصبح من الضروري، وبعد استبعاد الحلول غير العقلانية، تعيين فرد أو هيئة تؤسس لسلطة اتخاذ قرارات معترف بها قانونيا. من هنا، كانت السلطة التشريعية وحدها من تستطيع صياغة قوانين إلزامية تقع ضمن حدود أقاليمها. ولما كان من الممكن أن تكون تلك القوانين موضوعا لتأويلات مختلفة وفقا للمسائل العملية المطروحة، يصبح من الضروري تفويض السلطة القضائية بصلاحية المساهمة في إعداد وتطوير التشريعات القانونية وبما يتلاءم مع التغييرات الحاصلة في المجتمع.
إن سلطة تلك الهيئات التشريعية والقضائية المسؤولة عن قيادة مجتمع سياسي منظم، تصبح اقل فاعلية في حال استنادها على ألقوة وحدها كأداة من اجل إخضاع الأفراد وفرض طاعتها. فمن اجل ممارسة صلاحية سلطتها السياسية، ينبغي الاعتراف بشرعيتها القانونية أولا، وان تتمتع بسلطة تحث الأفراد على القبول العام بالامتثال لها. وهنا يقع بالضبط الدور الأساسي للايديولوجيات، التي سواء كانت ذات طبيعة دينية، فلسفية أو تقليدية، فأنها تسعى، فيما وراء الحقيقة، إلى إضفاء الشرعية على سلطة النظام السياسي. وغالبا ما يتلازم إنتاج تلك الشرعية مع خاصية مطابقتها مع القانون، بعبارة أخرى، مع واقع أنها تعمل وفق الإجراءات القانونية في الترشيح والانتخاب السياسي. وهذا ما يفترض، أن هذه الإجراءات نفسها غير قابلة للاعتراض والطعن، ومتسقة مع الايديولوجيا الرسمية، ضمنيا أو علانية.
في الواقع، إنها ليست بأجراءات علمية تهدف إلى ترسيخ ما هو صائب أو ما هو خاطئ، أو على الأقل، ما هو قابل للاحتمال من عدمه، وتسمح بتبرير قراراتنا وتمدنا بأسباب تدفعنا نحو الفعل والاختيار أو على تفضيل فعل ما على آخر. إن المناهج العلمية تعمل على تحديد الوقائع، دون النظر إليها بوصفها بواعث على الفعل.
إن البواعث الوحيدة لأفعالنا، وفقا لبعض الفلسفات الوضعية أو الطبيعية، إنما تتكون في المتعة التي توفرها لنا أو في الألم الذي تجنبنا إياه، آو في الشعور بالرضا الذي تستطيع أن تمنحنا إياه، وذلك من خلال السماح لنا في إشباع غرائزنا وحاجاتنا ومصالحنا المختلفة. من هنا، يصبح كل حكم قيّمي هو تمويه عن مصلحة معينة، وتقنين لرغبة، ولا تكون الايديولوجيا إلا قناعا خادعا لمشروع يتخذ من الخضوع وألقسر أداة، ابتغاء خدمة مصالح القوى المتنفذِّة. وكانت هذه هي الأطروحة البارزة في كتابات ماركس ونيتشه.
من هنا، يمثل النقد الفلسفي الذي يعمل على كشف وتعرية الاقيسة الفاسدة والادعاءات المزعومة التي تضفي الشرعية على نفوذ سلطة الايديولوجيا المسيطِرة ، مقدمة لكل فعل ثوري. فمنذ اللحظة التي نبدأ فيها بالنظر إلى السلطة المتنفذِّة بوصفها أبسط شكل من أشكال التعبير عن علاقات القوى، سوف لن نتردد في معارضتها بواسطة قوة ثورية تخدم المصالح المختلفة. لكن على من يؤيد تلك الثورة أن لا يكتفي بتلك المعارضة أمام القوى التي تحمي النظام القائم، بل يجب عليه أيضا أن يكون مدافعا عن النظام الجديد، الذي ينبغي أن يكون نظاما أكثر عدلا وإنسانية، ومنقذا للفرد من مختلف أشكال الاغتراب aliénation، عبر استعادة الحرية الإنسانية المفقودة. لهذا، كان لزاما علينا صياغة ايديولوجيا جديدة لإظهار تفوق فاعلية النظام الثوري الراديكالي على النظام القائم.
ولان المناهج العلمية أصبحت مجرد أداة طيّعة تعمل على تقويض الوقائع التي يمكن لها أن تكون مقدمة لايديولوجيا جديدة، دون أن تقدم تحليلا نقديا للأسباب التي دعتها إلى دعم الايديولوجيا القديمة والمسيطِرة. لانه من المتعارف عليه، أن نقد الايديولوجيا المسيطِرة لا يتحقق إلا بأسم أيديولوجيا جديدة؛ ونموذج جديد للإنسان وللمجتمع. وهذا لا يعني أبدا أن تكون الايديولوجيا الجديدة بمنأى من النقد. بهذه الطريقة، يتحول الجدال الفلسفي إلى صراع دائم بين الايديولوجيات التي تسعى لفرض حقائقها الخاصة على الجميع. وعلى الرغم مما ينتجه ذلك الصراع من وجهات نظر نقدية مختلفة، يتناقض الواحد منها مع الآخر، إلا إنها تمثل في الواقع، فرصة ملائمة لتحقيق ثراء عقلانيا، لان لو كل فرد من الأفراد سيأخذ في نظر الاعتبار أراء الآخر المختلفة، ربما سيتخذ موقفا مغايرا عما كان يتبناه في البدء. لان فتح باب النقاش والحوار والتواصل بين الآراء المتعددة، سيؤدي بالضرورة إلى إحداث تغيير كبير في المواقف.
لكننا في الوقت الحالي، لا نشهد في الغالب، صراعا بين الأيديولوجيات، وإنما نزاعات عدائية تفتقر لأي تأسيس نظري و تستعير شعارات من هنا وهناك، بل وتتسم بكونها شعارات متقلبة ومتناقضة وفيها من الإسفاف الكثير، تكتفي بمعارضة النظام القائم بوسيلة العنف، وإنكار كل نفوذ للسلطة الحالية.
يمكن أن يجد هذا الاتجاه تبريره عند من جرى استبعادهم دائرة النقاش، ونرفض الإصغاء إلى مطالبهم، طالما كان حكمنا عليهم أنهم لا يتسمون بالكفاءة الجيدة وغير صالحين للحوار، لذا نجدهم يضطرون إلى اللجوء في أحايين كثيرة إلى العنف من اجل أن إسماع صوتهم وإيصال مطالبهم. لكن، فيما إذا بقي النزاع على صورته هذه، فسوف لن يأتي بنتائج فعالة، إلا في حال استناده على أيديولوجيا مختلفة عن القديمة، تجعل من مبادئ أحترام كرامة الإنسان والتأسيس لمجتمع أكثر ديمقراطية على رأس أولوياتها. وبذلك، سينجح المتظاهرون في تبرير احتجاجاتهم ضد دعوات المدافعين عن النظام القائم بضرورة الاستعانة بقوة البوليس، في حال حصول اضطرابات داخل الجامعات، لأنه إن لم يتم الاستناد على ايديولوجيا جديدة، فلماذا إذن يسخط المتظاهرون من المدافعين عن النظام السائد من استخدامهم للقوة، ما دامت القوة هي الأداة المستخدمة والمشتركة بين الطرفين ؟
في الواقع، إذا كان التقليد الشائع في المؤسسات الأكاديمية يؤكد على عدم اللجوء إلى قوة خارجية لحفظ الانضباط، فهذا يعود إلى أن هذه المؤسسات وعلى مدار تاريخها تشعر بالارتياب تجاه استخدام القوة، وتعتبرها تهديدا للحرية الأكاديمية. وهي بأسم قيم احترام الحرية الأكاديمية، لا ترغب بالاستعانة بقوة البوليس التي بأمكانها أن تشكل خطرا على حرية التعبير عن الرأي. فلما كانت المؤسسات الأكاديمية في التقليد الغربي تمثل دوما ملاذا لحرية التفكير والتعبير، وللبحث الحر عن ما هو صائب وحقيقي، لذا كان لابد من العمل على حماية الجامعات من استخدام العنف من إي جهة كانت وتحت أي ذريعة. ولن يتم إقرار حظر استخدام القوة، إلا تحت مسمى أيديولوجيا أخرى جديدة. لكن لو استمر الحال في الإصرار على إنكار جميع الايديولوجيات بوصفها ليست إلا تسويغات واهية، وأن الحياة السياسية ليست إلا صراع قوى، حينئذ سوف لن تكون حقوق السلطة المتنفذِّة هي المتفوقة على الدوام فحسب، بل وستتلاشى أيضا فكرة الحق نفسها، لتفسح المجال للعنف وحده.
ختاما، من اجل أن لا يجري اختزال الحياة الاجتماعية والسياسية إلى محض علاقات قوى مُتنفِذة، ينبغي الاعتراف بوجود قوة شرعية، حيث تُؤسَس السلطة فيها على أيديولوجيا معترف بها قانونيا. ولا يتم نقد هذه الايديولوجيا الا بأسم ايديولوجيا أخرى، لان الصراع بين الأيديولوجيات اياً كانت تلك الأيديولوجيات، يشكل أساس الحياة العقلانية والروحية في العصور الحديثة. وإن منع التنافس بين الأيديولوجيات، إنما يعني إعادة التأسيس لدوغمائية ولارثوذكسية جديدة، وإخضاع حياة الفكر إلى سلطة النفوذ السياسية. إن نفي كل قيمة للأيديولوجيات، سيعيد الحياة السياسية إلى الكفاح المسلح ضد القوة المسيطِرة، الذي سينتصر فيه وبشكل غير قابل للجدال، الزعيم العسكري الأكثر نفوذا.
من هنا، تتأتى أهمية السماح للمؤسسات الجامعية بأداء وظيفتها تحت مظلة الحرية الأكاديمية، لان ذلك يعني بالضرورة الاعتراف بوجود منظومات قيّم أخرى ومختلفة عن قيّم القوة والعنف؛ والإقرار بأن جميع المنظومات لا تقع بمنأى عن النقد، وانه لا ينبغي لأي ايديولوجيا الاستناد على نفوذها ألترهيبي من اجل ضمان بقائها.
الهوامش:
* Ch. Perelman : Autorité, idéologie et violence, un article publié dans son livre : Le champ de l’argumentation, Presses Universitaires de Bruxelles, 1970, 207-216. Cet article publié à l’origine dans Annales de l’Institut de Philosophie de l’Université de Bruxelles, 1969, pp. 9- 19.
نُشر هذا المقال لمؤسس البلاغة الجديدة، الفيلسوف وعالم القانون البلجيكي شاييم بيرلمان (1912- 1984)،تحت عنوان : (السلطة، الايديولوجيا والعنف) في مؤلفه : حقل الحجاج. وقد ظهر هذا المقال في الأصل، ضمن حوليات معهد الفلسفة في جامعة بروكسل.
(1) JOHN STUART MILL, La liberté, trad. Par M. Dupont-White, Paris, 1860, p. 2.
(2) J. BUTLER, Fifteen sermons upon Human Nature, London, 1726, cité d’après A. I. MELDEN, Ethical Theories, second Ed. Prentice Hall, 1967, pp. 252-253.
(3) Le Pouvoir, tome second, Paris, Presses Universitaires de France, 1957, p p. 26-27.
(4) Bertrand DE JOUVENEL, De la Souveraineté, Paris, 1955, p. 45.
حول المترجمة: أنوار طاهر- باحثة من العراق- مختصة في حقل الدراسات الفلسفية، حاصلة على الماجستير في الفلسفة/كلية الآداب/جامعة بغداد عام 2002، عن اطروحتها الموسومة: ( بلاغة العشق الوجودي: كيركيجارد؛ نيتشه وسارتر أنموذجا ). حائزة على كل من جائزة العلوم في الفلسفة عام 1999؛ وعلى جائزة (شبعاد) للدراسات النسوية عن مؤسسة الزمان للصحافة والنشر عام 2003.