محمد عابد الجابري : المستعمل والمهمل
محمد عابد الجابري : تجديد التفكير في مشروع متجدد – المستعمل و المهمل
يعرف كل من له اتصال أو إطلاع باللغات الأوروبية الحية كالإنجليزية والفرنسية … أن أهلها والقائمين على شؤونها قد أخذوا منذ مدة طويلة “يضعون” ما أصبح يسمى عندهم بـ “اللغة المبسطة” -أعني أنهم يفرزونها ويعزلونها من لغتهم العالمة، الأدبية والعلمية- لغة سهلة ينطلقون منها في تعليم أولادهم في المدارس الابتدائية وكذلك لتعليم الأجانب. وهكذا نسمع ونقرأ عن “الفرنسية السهلة” و”الإنجليزية المبسطة” الخ، وهي نفس اللغة العالمة عندهم. غير أن مفرداتها وتراكيبها مختارة بعناية ومضبوطة بدقة. وأكثر من ذلك موزعة على مراحل ومستويات يخصص لكل مرحلة عدد محصور من الكلمات ما بين 200 و 500 كلمة لكل مرحلة، حتى إذا أنهى المتعلم المراحل المقررة، سبعة أو ثمانية، يكون قد توافر لديه رصيد لغوي قوامه ما بين 3000 و 4000 كلمة من الكلمات المستعملة بكثرة في مختلف مرافق الحياة، بالإضافة إلى مختلف التراكيب وأنماط الجمل والبنيات اللغوية الشائعة والضرورية للفهم والتعبير.
هذه اللغات المبسطة تدون و”تصنع” ويعاد فيها النظر باستمرار وتوضع لها قواميس خاصة وكتب للقراءة المدرسية ومؤلفات للمطالعة على شكل قصص، في الغالب، تختار موضوعاتها من بين موضوعات الساعة أعني الموضوعات التي تحظى بالاهتمام في الحياة المعاصرة كالرياضة والمغامرات الفضائية الخيالية وغير ذلك من القضايا “المعاصرة” التي تجعل الطفل يعيش عصره في لغته، ويتعلم لغته من خلال معطيات عصره ومشاغل أهله.
ونحن في العالم العربي ما أحوجنا إلى مثل هذه اللغة المبسطة المدونة والمضبوطة، ننطلق منها ليس فقط في تعليم أولادنا وتعليم الأجانب لغتنا، بل أيضا في تعريب حياتنا اليومية العامة وذلك بالارتفاع بالعاميات العربية إلى اللغة العربية الواحدة العالمة، الشيء الذي سيعزز وحدتنا الثقافية: المقوم التاريخي الدائم للأمة العربية. فكيف السبيل إلى هذه “العربية المبسطة”؟
لنستفت تجارب القدماء أولا!
* * *
عندما أراد الخليل بن أحمد الفراهيدي (100-1070هـ) وضع قاموس شامل للغة العربية (معجمه المعروف بـ “كتاب العين”) انطلق من مبدأ منهجي قوامه حصر جميع الألفاظ التي يمكن تركيبها من الحروف الهجائية العربية على أنماط الألفاظ والكلمات العربية، فركب الحروف الهجائية العربية بعضها مع بعض في ألفاظ ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية مستنفذا جميع التراكيب الممكنة بالجمع بين كل حرف من حروف الهجاء الثمانية والعشرين مع الحروف السبعة والعشرين الأخرى، مثنى وثلاث ورباع وخماس (المجرد في العربية يقف عند خمسة أحرف والباقي مزيد)، حتى إذا توافرت لديه جميع الألفاظ الممكن تركيبها على نمط الألفاظ العربية أخذ في فحصها: فما وجده مستعملا في لغة التخاطب لدى الإعراب أو في النصوص كالقرآن والشعر الجاهلي أبقاه، وما لم يجده مستعملا أهمله. ومن هنا انقسمت الكلمات التي يمكن تركيبها من الحروف الهجائية العربية لديه، ولدى اللغويين من بعده، إلى “مستعمل” و”مهمل”. والمعاجم القديمة تحتفظ لنا، بطبيعة الحال، بـ “المستعمل” وحده.
ولكن “المستعمل” من طرف من؟
لقد جمعت اللغة العربية كما هو معروف من الأعراب الذين كانوا ما يزالون في عصر التدوين يعيشون في حالة “خشونة البداوة” ولم تفسدهم “رقة الحضارة”، حسب تعبير ابن خلدون. وبالتالي فـ “المستعمل” من منظور اللغويين هو ما استعملته القبائل العربية التي لم “يفسد” لسانها بسبب الاحتكاك مع المراكز الحضرية التي تفشت فيها ظاهرة، “الاختلاط”، فكانت النتيجة أن صارت لغة المعاجم العربية تنقل عالم الأعرابي، وهو عالم البداوة والتكرار والرتابة…
ما يهمنا الآن ليس مناقشة هذا المنهج في جمع اللغة ولا النتائج التي ترتبت عنه. إن ما يشغلنا هنا هو التفكير في كيفية الاستفادة منه في مشروع اللغة العربية المبسطة التي نحن في أشد الحاجة إليها، كما اشرنا إلى ذلك قبل في المقال السابق. وأنا اعتقد أن مبدأ التمييز بين “المستعمل” و”المهمل” صالح للتطبيق اليوم أيضا كوسيلة لـ “صنع” اللغة العربية المبسطة المطلوبة، وذلك على عدة مستويات، أولها مستوى المعاجم نفسها. ذلك أننا إذا القينا نظرة في معاجمنا اللغوية كمعجم “لسان العرب” وهو أوسعها أو “مختار الصحاح” وهو أوجزها أو قاموس “المنجد” أو ما ظهر بعده من القواميس الحديثة، لوجدناها جميعا تضم عددا هائلا من الألفاظ التي لم تعد مستعملة في اللغة العربية المعاصرة، أعني لغة الصحافة والإذاعة والقصة والمقالة والنصوص العلمية، بل منها عدد كبير غير مستعمل لا في القرآن ولا في الحديث. فلماذا لا نفكر في قاموس عربي معاصر يحتفظ من المعاجم القديمة بالكلمات المستعملة اليوم فقط ويعتبر الباقي مهملا، لا بصورة مطلقة، بل مهملا بالنسبة للغة المعاصرة، وبالتالي يبقى محتفظا به في المعاجم القديمة التي ستبقى بدورها، كما كانت دوما، مرجعا للمتخصصين والباحثين.
هذه واحدة.
أما الثانية فهي أن هذا القاموس المعاصر يجب أن يضم بين دفتيه ما أهملته، عن قصد، المعاجم القديمة على الرغم من كونه كان مستعملا، نقصد بذلك المصطلحات والمفاهيم العلمية والأدبية والكلامية والفلسفية التي ألف فيها القدماء كتبا ورسائل متخصصة كرسائل “الحدود” و “التعريفات” و”اصطلاحات الفنون”، وبالخصوص ما هو مستعمل الآن من الكلمات والمصطلحات والمفاهيم المولدة أو المعربة أو المترجمة، في مختلف ميادين الثقافة المعاصرة. هذا النوع أيضا يجب إدخاله في القاموس العربي المعاصر. ولا بد أن نضيف إلى ذلك كله عددا كبيرا من الكلمات “العامية” المستعملة بكثرة والتي اتخذت قالبا عربيا أو معربا تقبله ” الأذن” العربية.
أعتقد أنه بهذه الطريقة يمكن أن نتوفر على قاموس أصيل ومعاصر في نفس الوقت: أصيل لأنه يحتفظ بجميع الألفاظ العربية المستعملة في النصوص التراثية المتداولة… ومعاصر لأنه سيضم الألفاظ المولدة والمعربة والمترجمة بالإضافة إلى المصطلحات العلمية والفنية المتداولة والمفاهيم الرائجة في عصرنا. وهو فوق ذلك سيدشن مرحلة جديدة في تاريخ المعجم العربي، إذ سيمكن من جعل الكلمة العربية يتوافر لها تاريخ كما هو الحال في اللغات الأخرى، الشيء الذي نفتقده نحن في لغتنا. فالكلمة العربية، كما نعرف بقيت، هي هي، منذ الشنفرى وامرئ القيس، كلمة لا تاريخ لها! هذا القاموس العربي المعاصر يجب أن يبقى مفتوحا لكل جديد وتجديد، وهو خطوة أولى ضرورية لـ “صنع” وتدوين اللغة العربية “المبسطة” موضوع حديثنا، منه يجب أن تستقي، وعليه يجب أن تعتمد.
هناك مسألة أخرى لا بد من إثارتها هنا وتتعلق بالكيفية التي ينبغي أن يرتب عليها القاموس العربي المعاصر المطلوب. إن اعتماد الحرف الأول من “أصل” الكلمة في ترتيب المعجم، كما في “المنجد”، يتطلب المعرفة الدقيقة بالقواعد الصرفية، وهذا ما ليس في مستطاع الطفل ولا الأجنبي ولا حتى المثقف العادي. ذلك لأن “أصل” الكلمة، إذا كانت أكثر من ثلاثية، تتوقف معرفته على معرفة قواعد الاشتقاق والإدغام والإبدال والإعلال وأوزان المجرد والمزيد… الخ؛ وبكيفية عامة يتطلب التضلع في اللغة والصرف. يجب إذن التخلي عن هذه الطريقة ليس للاعتبارات التي ذكرنا فحسب، بل أيضا لأن اعتماد أصل الكلمة في ترتيب مادة المعجم أسلوب يفرض علينا النظر إلى اللغة كمجموعة من الأسر أو “القبائل” المرتبطة فيما بينها برابطة النسب، وبالتالي فما لا ينتمي إلى “أسرة” من هذه الأسر يبقى “شريدا” أو “دخيلا”، فيما إذا قبل نوعا من القبول…وباختصار إن اعتماد “أصل” الكلمة سيبقي اللغة كما هي ويسد الباب بالتالي أمام كل جديد. لا بد إذن من الاختيار بين طريقين في ترتيب مواد “القاموس العربي المعاصر”، إما اعتماد الحرف الأول من الكلمة كما هي سواء كان زائدا أو أصليا (بعد إسقاط “ال” التعريف)، وإما بالرجوع إلى طريقة المعاجم القديمة واعتماد الحرف الأخير من الكلمة في الترتيب أولا ثم الرجوع القهقرى بالنسبة للحروف الأخرى، وهنا يكمن التعقيد : فالحرف الأخير من الكلمة يتطلب الرجوع إلى الأصل إن كان من حروف العلة أو من الحروف الزائدة.. وإذن فالأنسب فيما نرى هو اعتماد الحرف الأول كيفما كان، أصليا أو زائدا، مع إسقاط “الـ” التعريف، وذلك ما عملت به بعض المعاجم القديمة المختصة كـ”تعريفات” الجرجاني مثلا.. وبذلك يتم التعامل مع الكلمة بوصفها كيانا مستقلا، لا بوصفها “أصلا” أو “فرعا”… إن مفهوم “الأصل والفرع” كان من المفاهيم الأساسية في الجهاز الإبيستيمولوجي للفكر العربي في الماضي.. فهل من الضروري أن نبقى سجناء هذا المفهوم إلى الأبد؟
تلك مسألة قد نعود إلى مناقشتها، أما الآن فيكفي أن نؤكد إلى أن مبدأ المستعمل والمهمل مبدأ يجب اعتماده دوما، لأنه وحده المبدأ الذي يمكن من مساوقة التطور ويفسح المجال للتجديد. ذلك أن لكل عصر مستعمل ومهمل، في اللغة كما في الأدوات الأخرى، الفكرية النظرية والمادية العملية.