محمد عابد الجابري : رسائل الألفاظ والمعاني..!
من المشاكل الحضارية التي واجهت وتواجه العرب في العصر الحديث مشكل اللغة، وهو مشكل يتمثل بكيفية خاصة في وجود فرق واسع عريض بين لغة البيت والشارع والحياة اليومية، وبين لغة الكتابة والقراءة والعلم والثقافة. إن المسافة بين اللغة الفصحى “العالمة” وبين اللهجات العامية، المتعددة المختلفة، مسافة واسعة وعميقة. والطفل العربي يعاني في تعلم اللغة الفصحى من صعوبات جمة سواء على مستوى النطق أو الكتابة أو تركيب الجمل، صعوبات قد لا تقل كثيرا عن تلك التي يعانيها عند تعلم لغة أجنبية.
ليس هذا فحسب، بل إن اللغة “العالمة” التي يتعلمها الطفل في المدرسة لا يستطيع توظيفها في الحياة اليومية، لا على مستوى التفكير ولا على مستوى التعبير، لأنها في وضعيتها الحالية لا تغطي إلا قسما صغيرا ومحدودا من الأشياء التي يتعامل معها يوميا، أشياء المدنية الحديثة، المادية منها والمعنوية، بينما تغطي اللهجات العامية دائرة أوسع لكونها لهجات مفتوحة تقبل “الدخيل” من الكلمات الأجنبية بدون قيود، وقد تتصرف فيها أيضا بدون قيود. وهكذا فقاموس المنزل وقاموس الدكان وقاموس المصنع… هي على العموم قواميس أغنى بما لا يقاس في اللهجات العامية منها في اللغة “العالمة” الفصحى، الشيء الذي يجعل اللجوء إلى العامية ضرورة لغوية.
على أن الانفصال بين اللغة الفصحى واللهجات المحلية في الحضارة العربية ليس وليد هذا القرن ولا القرن الماضي، ولا هو من نتائج الاحتكاك بالحضارة الحديثة والانفتاح عليها، بل هو انفصال يرجع إلى عصر الفتوحات الإسلامية الأولى، إلى بداية ازدهار الحضارة العربية الإسلامية ذاتها… إلى بدايات العصر الأموي على الأقل، حينما أخذ سكان البلاد المفتوحة يندمجون في المجتمع العربي الإسلامي الجديد حاملين معهم لغاتهم وثقافاتهم مما أدى إلى ما عبر عنه القدماء بـ “الاختلاط “، اختلاط الألسن، وبالتالي تفشي اللحن في اللغة العربية على نطاق واسع (ومعنى “اللحن في اللغة”: “الميل عن صحيح الـمَنْطِق” =النطق). وإذا أضفنا إلى ذلك أن “لغات” القبائل العربية التي انتقلت في عصر الفتوحات أو بعده إلى خارج الجزيرة لتستوطن البلاد المفتوحة، كانت عبارة عن لهجات تختلف قليلا أو كثيرا عن “لغة قريش” التي اعتمدت كلغة “مركزية”، أدركنا كيف أن الفتوحات العربية قد “فتحت” الباب لقيام لهجات عامية تختلف عن بعضها باختلاف “لغات” القبائل العربية الفاتحة أولا، وباختلاف لهجات السكان الأصليين في البلاد المفتوحة ثانيا. هكذا نشأت العاميات العربية ابتداء من أواخر العصر الأموي- على أقل تقدير- بفعل عمليتين متكاملتين : استعجام نسبي للقبائل العربية في المراكز الحضرية في الجزيرة العربية وخارجها، واستعراب نسبي كذلك للسكان غير العرب المسلمين.
وكما هو معروف فلقد كانت العملية المقابلة، ولنقل رد الفعل “العالم”، لهذه الظاهرة “الطبيعية” التلقائية هو جمع اللغة العربية الفصحى وتدوينها ووضع قواعد لها، إنقاذا للغة “العالمة”، لغة القرآن والحديث والشعر والمغازي والأيام وبكلمة واحدة لغة الثقافة العربية الإسلامية الناشئة… وكما هو معروف فقد اعتمد “جامعو اللغة” السماع والنقل من الأعراب، سكان البادية في الجزيرة العربية، الذين لم “تفسد ألسنتهم بالاختلاط ” حسب تعبير القدماء. فكانت النتيجة هذه اللغة الفصحى التي احتفظت لنا بها المعاجم وكتب التراث عامة والتي تشكل لغتنا “العالمة”، ولكن المنفصلة عن الحياة اليومية وأشيائها الحضارية منذ عصر التدوين نفسه، منذ القرن الثاني للهجرة، مما كرس ورسخ الانشطار في الواقع الثقافي العربي، الانشطار الذي يتمثل في عدم وجود جسر لغوي بين الثقافة العالمة، ثقافة النخبة، والثقافة “العامية” ثقافة الجماهير.
* * * * * *
ما يهمنا هنا ليس حكاية هذه الوقائع المعروفة، بل يهمنا أولا وأخيرا الدرس الذي يمكن استخلاصه من تجربة “عصر التدوين” القديم من أجل تدشين “عصر تدوين” جديد. إن عملية “التدوين”، التي شهدها العصر العباسي الأول، من بدايات القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للهجرة، كانت في الواقع عبارة عن إعادة بناء شاملة للثقافة العربية الإسلامية، وفي مقدمتها اللغة العربية.. وإذا كان المطلوب منا اليوم، على طريق تدشين مرحلة نهضوية جديدة، هو إعادة بناء شاملة للثقافة العربية على ضوء معطيات عصرنا ومتطلباته، فلعل أول ما يجب البدء به هو التفكير في تدشين عملية “تدوين” جديدة للغة العربية. وهنا يمكن، بل يجب، أن نستلهم الطريق ليس فقط بتوظيف ما تراكم في العصر الحديث من مناهج وتجارب في العالم كله وما حصل من تقدم في العلوم اللسانية بكيفية عامة، بل يجب علينا كذلك استذكار الكيفية التي جعل بها القدماء لغة الأعراب “الأقداح” لغة واحدة حضارية عالمة… ولكن مع مراعاة التباين والاختلاف بين طبيعة المشكل اليوم وبين طبيعته بالأمس.
كانت المشكلة التي واجهت جامعي اللغة العربية الفصحى في عصر التدوين مشكلة منهجية أولا وقبل كل شيء، وتتلخص في إيجاد وسيلة تمكن من “عزل” و”فصل” اللغة الفصحى (لغة القرآن) عن اللهجات العامية التي كانت تفرض نفسها كلهجات للحياة اليومية. أما مشكلتنا نحن اليوم فهي أيضا مشكلة منهج، ولكنها ذات اتجاه معاكس: كيف يمكن، لا جمع اللغة الفصحى وعزلها فهي مجموعة معزولة، بل بالعكس: كيف يمكن بسطها وتعميمها، وبالتالي تحويلها إلى لغة للحياة اليومية، أو على الأقل- وهذه خطوة أولى ضرورية- كيف يمكن جعلها قادرة على تغطية أشياء الحياة اليومية ومستجداتها.
يتعلق الأمر إذن بالحاجة إلى قاموس معاصر للغة العربية: معاصر، بمعنى أنه يحتوي على جميع الألفاظ الضرورية للتعبير عن معطيات حياة عصرنا المادية منها والفكرية. فما السبيل إذن إلى هذا القاموس؟
إننا على وعي كامل بالصعوبات اللغوية والتقنية التي تعترض تحقيق مثل هذا المشروع. كما أننا على وعي كامل كذلك بالمشاكل التي يطرحها تعدد المجامع اللغوية العربية في الوقت الحاضر وعدم وجود إرادة جدية للتنسيق بين عمل الدول العربية في هذا المجال كما في المجالات الأخرى. ومع ذلك فإن تجربة عصر التدوين “القديم” تبعث ليس على شيء من التفاؤل فحسب، بل تغري أيضا باستلهام بعض الحلول منها!
ذلك أن الجهة التي قامت بجمع اللغة الفصحى قديما ليس المجامع العلمية التي ترعاها الدولة وتنفق عليها وبالتالي تمارس عليها سلطتها وهيمنتها، بل أفراد تجندوا للعمل متنافسين ومتعاونين في آن واحد، لم يكونوا يتلقون أجرا، بل بالعكس كانوا يصرفون من أموالهم الخاصة على تنقلاتهم وأحيانا على “شراء” الكلام الفصيح من الأعراب… كانوا يتصرفون وكأنهم يمارسون هواية. نعم، قد يكون وراء العملية تشجيع من هذا الخليفة أو ذاك في وقت من الأوقات، وقد تكون العملية ذاتها جزء من استراتيجية عامة واعية أو غير واعية… ولكن يبقى مع ذلك أنها كانت من عمل العلماء وحدهم، أي أولئك الذين نعبر عنهم نحن اليوم بـ “النخبة المثقفة”.
هذه الحقيقة التاريخية تدفعنا إلى التساؤل: لماذا لا تتجند نخبة من المثقفين العرب المعاصرين من ذوي الاختصاصات المختلفة لإنجاز مثل هذا العمل/ الهواية، خصوصا ونحن في عصر تتجه فيه الأمور إلى إسناد كثير من المهام التي كانت تقوم بها الدولة إلى ما يعبر عنه اليوم بـ “المجتمع المدني” و”القطاع الخاص”.
لنطرح السؤال ولو في إطار حلم!
كان من أهم الوسائل التي استعملها أولئك العلماء/ الهواة، الرواد، لجمع اللغة العربية: وضع “رسائل الألفاظ والمعاني”، وكثير منها لا زال موجودا إلى الآن: رسائل تحمل أسماء مثل “كتاب المطر” و”كتاب اللبإ واللبن” لأبي زيد الأنصاري، و”كتاب الإبل” و”كتاب الخيل” و”كتاب الشتاء” و”كتاب أسماء الوحوش وصفاتها” و”كتاب خلق الإنسان” و”كتاب النخل والكرم” و”كتاب النبات والشجر” للأصمعي… الخ.. رسائل يختص كل منها بجمع الألفاظ العربية الفصيحة المستعملة في موضوع معين، كالموضوعات التي ذكرنا.
فلماذا لا يكون من بين المثقفين العرب اليوم نخبة من “الهواة” يؤلفون رسائل صغيرة مماثلة، ولكن بعناوين معاصرة مثل: كتاب الدراجة وكتاب السيارة، و”كتاب المطبخ وأدواته ومواده وأكلاته، وكتاب الملابس والأحذية وما في معناها، وكتاب الكهرباء والاليكترونيات، وكتب في الإدارة والمالية والبنوك، وأخرى في الاجتماعيات والسياسيات، إلى غير ذلك من الأدوات والمواد والعلاقات التي لا يعبر عنها العربي المعاصر إلا بما يقدمه له “الاختلاط” من ألفاظ ومصطلحات معظمها من لغات أجنبية لا تمت إلى العربية بصلة. إن “الرسائل اللغوية المعاصرة” التي تدعو الحاجة إليها اليوم يمكن أن تستقى موادها من مصادر متنوعة: من معاجم اللغة الفصحى، وكتب المصطلحات القديمة، ومعاجم المجامع العربية الحديثة، وأيضا من العاميات العربية المعاصرة مع الإقدام بجرأة على الوضع والترجمة والتعريب، والاستعانة بالصور والرسوم. ويمكن في إطار ذلك القيام بدراسات مقارنة بين اللهجات العربية مع البحث عن أصولها واختيار الأقرب إلى النطق العربي منها.
مثل هذه “الرسائل” يمكن أن توزع بأسعار رمزية أو بالمجان في المدارس والجامعات والدور الثقافية، ويمكن أن تخصص لها برامج تطبيقية في الإذاعات والتلفزات والفضائيات العربية. هذا مع ما يلزم من قرارات سياسية في هذا المجال، مثل القرار الذي يمنع استعمال غير العربية في الواجهات واللافتات والمعاملات الرسمية، على غرار ما هو جار به العمل في كثير من الأقطار الأوربية.
النهضة، التجديد، الحداثة، والرقي، والتقدم … كل ذلك يحتاج إلى عمل ومشاريع عمل. أما التغني بها أو التباكي، كمجرد شعارات، فهو لا يجدي.