محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية – فرنسا وإسبانيا
نعيد نشر هذه المجموعة من المقالات للمفكر الراحل محمد عابد الجابري تزامنا مع الضجة التي خلقتها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول الصحراء المغربية. و قد نشر هذا المقال بعنوان “الصحراء المغربية – فرنسا وإسبانيا” يوم الثلاثاء 17 يوليو 2007.
يندرج الوضع التاريخي للصحراء المغربية تحت ظاهرة عامة ترجع إلى بدايات القرن الخامس عشر الميلادي حين دشنت كل من البرتغال وإسبانيا، متنافستين، حركة التوسع الاستعماري متجهة صوب الشواطئ المغربية على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، مباشرة بعد سقوط الأندلس. ومنذ ذلك الوقت أضحت معظم المدن الشاطئية المغربية، شمالاً وغرباً، هدفا لتوسع استعماري أوروبي نجح المغرب في مقاومته ورد الغزاة على أعقابهم مرات كثيرة، إلى أن تكالبت عليه الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر متنافسة، ثم متراضية بعد أن تفاهمت واتفقت على تقسيم الأقطار التي تتنافس عليها في أفريقيا، مما كانت نتيجته أن بات المغرب من نصيب فرنسا (ومعها إسبانيا) الشيء الذي كرسته معاهدة الحماية المبرمة بين السلطان عبد الحفيظ ووزير خارجية فرنسا عام 1912.
اعتبرت كل من فرنسا وإسبانيا أن معاهدة الحماية تخص فقط الأراضي المغربية التي كانت تحت سيادة السلطان حين توقيعها. أما الجانب المغربي، وخاصة السلطان عبد الحفيظ ومخزنه، فليس واضحاً ما إذا كان قد طرح قبل توقيع معاهدة الحماية، الحدود التاريخية للمغرب أو لا. وكيفما كان الحال فقد كان لثورة المغاربة ورفضهم لهذه المعاهدة، ثم لتنازل السلطان عبد الحفيظ عن العرش محتجاً على كون فرنسا تتصرف كدولة محتلة وليس طبقاً لمعاهدة الحماية، أن أصبحت قضية الاحتلال الاستعماري للمغرب مسألة واحدة في نظر المغاربة: لا فرق في ذلك بين الأراضي التي سبق لفرنسا أن احتلتها شرقاً (مثل تيندوف وتوات وكولومب بشار والقنادسة… الخ) وضمتها لإدارتها في مستعمرتها الجزائر، والأراضي التي اقتطعتها من المغرب جنوباً (شنقيط -موريتانيا) وجعلتها مستعمرة مرتبطة بمستعمرتها السنغال والسودان الغربي (مالي)، ولا بين الأراضي التي كانت تحتلها إسبانيا شمالاً (سبتة ومليلية) وجنوباً (طرفاية وإيفني وطنطان والساقية الحمراء ووادي الذهب)، والأراضي التي أخذت كل من فرنسا وإسبانيا تحتلها بموجب معاهدة الحماية.
ولم تكن هذه الرؤية التي يتحدد فيها المغرب، في نظر أهله ووجدانهم ومؤرخيهم، بحدوده التاريخية الممتدة إلى نهر السنغال وتمبكتو، مبنية على مجرد الذاكرة أو العاطفة، بل كان ذلك مؤسساً على استمرار المقاومة. فمنذ بداية القرن العشرين والمقاومة الشعبية المغربية تتصدى للاحتلال جنوباً وشمالاً. وكانت “ثورة” السلطان عبد الحفيظ على أخيه عبد العزيز داخلة هي الأخرى في هذا الإطار أو على الأقل استمدت شرعيتها من الانخراط في عملية مقاومة الاحتلال الأجنبي.
هذا جانب، وهناك جانب آخر لابد من إبرازه لفهم التطورات التي حصلت، ويتعلق الأمر باستمرار التنافس بين فرنسا وإسبانيا حتى بعد توقيع معاهدة الحماية واستلام إسبانيا المنطقة الشمالية بموجب هذه المعاهدة. كانت إسبانيا (هي والبرتغال) سباقة إلى التوسع الاستعماري منذ بدايات القرن الخامس عشر كما ذكرنا، ولكن تضاءل شأنها أمام كل من فرنسا وإنجلترا اللتين تقدمتا عليها تكنولوجياً وبالتالي اقتسمتا العالم فيما بينهما ولم تتركا لإسبانيا في القارة الأفريقية إلا “الفتات”. ومن الطبيعي والحالة هذه أن يبقى في “نفس” إسبانيا شيء ضد فرنسا التي هيمنت على المغرب هيمنة تضاءل معها الوجود الإسباني في المنطقة الشمالية التي كانت تديرها إسبانيا، طبقاً لمعاهدة الحماية، باسم سلطان المغرب ممثلاً في خليفته في تطوان.
كان من جملة ردود فعل إسبانيا على الهيمنة الفرنسية، عدم اعترافها بعزل الملك الوطني محمد الخامس وتنصيب آخر مكانه فأعلنت أن خليفة السلطان الشرعي في تطوان –عاصمة منطقة حكمها- هو الخليفة محمد الخامس. ليس هذا وحسب بل لقد جعلت إسبانيا من راديو “درسة تطوان” الذي تشرف عليه –كما كانت فرنسا تشرف على (راديو ماروك بالرباط)- جعلت منه صوتاً مناصراً للوطنية المغربية، كما سمحت لـ”حزب الإصلاح” في منطقتها بالتحرك ضد السياسة الفرنسية، فأصبح امتدادا علنيا (بعد أن كان سرياً) لـ”حزب الاستقلال” قائد الحركة الوطنية بالمنطقة الفرنسية.
ليس هذا وحسب، بل فتحت إسبانيا باب اللجوء السياسي أمام رجال حركة المقاومة التي قامت في “المنطقة الفرنسية” غداة نفي محمد الخامس، فكان المقاومون الذين ينكشف أمرهم يهربون إلى المنطقة الشمالية وإلى إيفني جنوباً (والتي كان تحت الإدارة الإسبانية)، وأكثر من ذلك سمحت لهؤلاء المقاومين اللاجئين بتأسيس “جيش التحرير” تحت مسمعها ومرآها في تطوان، كما كان الذين قصدوا إيفني من المقاومين المغاربة ينشطون في تزويد المقاومة بالسلاح وفي تنظيم المقاومة الشعبية للوجود الفرنسي في المناطق الجنوبية من المغرب. أضف إلى ذلك أن “مركز الاتصال” والتزويد بالسلاح من الخارج كان في مدريد بعلم من السلطات الإسبانية.
أعتقد أننا الآن في وضع يمكننا من الجواب عن سؤال قلما يطرح، مع أنه أساسي في فهم التطورات اللاحقة التي عرفتها قضية الصحراء المغربية! هذا السؤال يمكن صياغته كما يلي: لماذا اتجه المغرب عند بداية الاستقلال إلى المطالبة بموريتانيا ولم يتجه أولاً إلى تحرير المناطق الجنوبية الشاطئية التي تفصله عنها: إيفني، طرفاية، طنطان، وبالخصوص الساقية الحمراء ووادي الذهب (الصحراء الغربية حالياً)، وهي المناطق التي لابد من المرور عبرها إلى موريتانيا!؟
فعلاً إنها مفارقة شبيهة بتلك التي تحكي عن جحا حينما سُئل: “أين أذنك؟”، فأشار إلى أذنه اليسرى بيده اليمنى! (وقد ينتج عن ذلك حجب النظر بالذراع!). إنها مفارقة تاريخية فعلاً، كما يبدو لنا الأمر الآن! غير أن المفارقات التاريخية كثيراً ما تكون في وقتها خططاً سياسية مقصودة، وفي كثير من الأحيان معقولة ومبررة! وفي الفقرة التالية “شيء” من البيان.
كانت الحركة الوطنية في المغرب على صلة بسكان الأقاليم الجنوبية التي وضعتها فرنسا خارج معاهدة الحماية, ومنها تيندوف وإقليم شنقيط (موريتانيا) الذي يليها. ومعلوم أن السلطات الفرنسية لم تضم إقليم تيندوف إلى إدارتها في الجزائر إلا في أواخر الأربعينيات، وكان هذا الضم بدوافع اقتصادية واستراتيجية. أما موريتانيا فكانت مستعمرة فرنسية لكنها ظلت على صلة بالمغرب منذ القدم، وقد تكفي الإشارة إلى أن المؤسسين للدولة المغربية –بعد إمارة الأدارسة- هم المرابطون الملثمون وهم من موريتانيا الحالية. ومعروف أن الملك المغربي أحمد المنصور السعدي قد فتح السودان (مالي) في أوائل القرن السادس عشر. وقد بقي هذا الإقليم تابعاً للمغرب إلى سنة 1893، سنة احتلال فرنسا لتك المنطقة.
كان المغرب حاضراً إذن في المناطق الصحراوية التي تمتد إلى النيجر، حضوراً معنوياً تارة وفعلياً تارةً أخرى، وهذا نتج عنه أمران: فمن جهة كانت حدود المغرب تمتد، على صعيد الذاكرة الحية، إلى ما وراء نهر السنغال، ومن جهة أخرى كان سكان الصحراء إلى السنغال مرتبطين بالمغرب دينياً (البيعة، الخطبة باسم ملك المغرب، الطرق الصوفية، الخ)، وسياسياً وعاطفياً وتجارياً، لأنه لم يكن ينافس المغرب على هذه الناحية غير فرنسا.
وكما كان لثورات الأقاليم الجنوبية وثورات الريف والأطلس أصداء واسعة في مختلف ربوع الصحراء، كان لإقدام فرنسا على عزل الملك محمد الخامس صدى كبير في المناطق الصحراوية. وكان ذلك منطلقاً لنشأة حركة وطنية في موريتانيا ذات توجه مغربي عربي إسلامي ضداً على حركة أخرى أنشأتها فرنسا. وعندما أعلن استقلال المغرب كان على رأس الحركة الأولى (حزب النهضة) المرحوم “حرمة ولد بابانا”، وعلى رأس الحركة الأخرى المضادة والمنافسة حزب “المختار ولد داداه” الذي كان موالياً للسياسة الفرنسية.
كان من الطبيعي أن تتوافد الوفود الصحراوية من موريتانيا وغيرها على الرباط عند إعلان الاستقلال للتهنئة وتأكيد الولاء للمغرب. وكان أهم وفد هو الوفد الموريتاني برئاسة حرمة ولد بابانا الذي قدم لإعلان ولاء الشعب الموريتاني للمغرب وملكه وطلب المساعدة لتأسيس جيش لمقاومة الوجود الفرنسي في موريتانيا والصحراء. لم يكن من الممكن أن يرفض محمد الخامس تجديد البيعة له من أهل شنقيط ولم يكن من الممكن أن تتغاضى الحركة الوطنية عن مبادرة أهل شنقيط. وهكذا تبنى “حزب الاستقلال” قضية موريتانيا. وعندما أعلن الجنرال “شارل ديجول” عن تنظيم استفتاءات في الأقطار الأفريقية التي تستعمرها فرنسا لتقرير مصيرها والاختيار بين الانفصال عن فرنسا أو الاستقلال مع الارتباط بفرنسا، هب المغرب، ملكاً وشعباً، يطالب رسمياً ودوليا بموريتانيا كأرض مغربية لا ينطبق عليها ما ينطبق على المستعمرات الفرنسية الأفريقية. لقد كان هناك إجماع وطني على هذا الاختيار الذي كان يفرض نفسه.