محمد عابد الجابري : الصحراء المغربية .. نقطة اللارجوع
نعيد نشر هذه المجموعة من المقالات للمفكر الراحل محمد عابد الجابري تزامنا مع الضجة التي خلقتها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول الصحراء المغربية. و قد نشر هذا المقال بعنوان “الصحراء المغربية… نقطة اللارجوع” يوم الثلاثاء 31 يوليو 2007.
بعد التحالف الإسباني الفرنسي في موضوع الصحراء الغربية أواخر خمسينيات القرن الماضي، انتقل المغرب في بداية الستينيات بهذه القضية إلى لجنة الأمم المتحدة لتصفية الاستعمار، وكان موقف إسبانيا رفض المطالبة المغربية بينما فضل المغرب الانتظار حتى سنة 1974 حين اكتشفت إسبانيا الفوسفات في بوكراع قريباً من العيون. حينها قبلت مبدأ تقرير المصير للصحراء على أساس تكوين دولة مصطنعة تحت النفوذ الإسباني. ولكي تضمن إسبانيا فرانكو حياد الجزائر أو استمالتها، طرحت فكرة استغلال مشترك لفوسفات الصحراء بين إسبانيا والجزائر مدة 50 سنة تحت علم دولة مصطنعة تعيش تحت النفوذ الإسباني والجزائري.
كان الموقف خطيراً بالنسبة للمغرب، وقد اهتدى المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، قائد المعارضة، إلى فكرة يتجاوز بها المغرب الوضع الجديد في المهد، سرعان ما اقتنع بها الملك الحسن الثاني، وذلك بالطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تستصدر من محكمة العدل الدولية بلاهاي فتوى في الخلاف بين المغرب وإسبانيا حول الصحراء الغربية: المغرب يقول إن الصحراء كانت دائماً مغربية، تربطها بملك المغرب علاقات البيعة إلى أن احتلتها إسبانيا أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر. أما إسبانيا فتقول إنها وجدت الصحراء أرضاً خلاءً غير منضوية تحت أية دولة. وقد وافقت الأمم المتحدة على الاقتراح المغربي فوجهت سؤالاً في الموضوع إلى محكمة العدل الدولية يوم 13 ديسمبر 1974. شكلت المحكمة لجنة لتقصي الحقائق والاستماع إلى شهادة الدول المجاورة، وهي إسبانيا والجزائر وموريتانيا. وكانت النتيجة أن انقسم الشهود في المحكمة إلى فريقين: فريق يتكون من إسبانيا والجزائر، وفريق يتكون من المغرب وموريتانيا. وبعد مداولات ماراثونية أصدرت المحكمة رأيها في 16 أكتوبر 1975 تقول فيه: “الصحراء لم تكن أرضاً سائبة، هناك علاقات بيعة من بعض القبائل لسلطان المغرب، لكن ليست هناك سيادة ترابية قد تؤثر على تطبيق مبدأ تقرير المصير وتعبير السكان عن إرادتهم”.
لن نتابع هنا المتاهات التي عرفتها القضية في الأمم المتحدة. فقد كانت سياسة “نعم” و”لا” تحكم مسارها منذ البداية وإلى اليوم…
والتصريح الأخير لمجلس الأمن، الصادر قبل شهرين، حول مقترح الحكم الذاتي في الصحراء الذي قدمه المغرب كان من هذا النوع: الثناء على المقترح المغربي في بداية التصريح، وتأكيد حق تقرير المصير في نهايته.
لن نتابع هنا تطورات القضية على المسرح الأممي، وهل يفيد في شيء التأريخ لقضية فلسطين كما عاشتها أروقة الأمم المتحدة! سنكتفي بالتذكير ببعض اللحظات الرئيسية من تاريخ القضية داخل المغرب. فمباشرة بعد إعلان محكمة العدل الدولية رأيها في القضية واعترافها بوجود علاقة بيعة بين قبائل الصحراء وسلطان المغرب، أعلن المرحوم الملك الحسن الثاني مساء يوم 17 أكتوبر 1975 عن تنظيم مسيرة شعبية سلمية إلى الصحراء. ولما كان جيش الاحتلال الإسباني يعد ثمانين ألف جندي، وسكان الصحراء نحو خمسين ألفاً، قرر الملك المرحوم إبراز الطابع السلمي للمسيرة بحيث لا يحمل المشاركون فيها سوى المصحف الشريف.
انطلقت المسيرة يوم 6 نوفمبر 1975 وضمت مئات الآلاف، وأحدثت رجة إعلامية كبرى في العالم أجمع. وكان الوقع في إسبانيا أكبر، مما اضطرت معه الحكومة الإسبانية إلى إرسال رسالة إلى الأمم المتحدة قالت فيها إنها ستسلم إدارة الصحراء إلى “أي مطمح شرعي”. وبالفعل سلمتها –بعد مفاوضات- إلى المغرب وموريتانيا بموجب اتفاقية أبرمت بين البلدان الثلاثة في مدريد بتاريخ 14 نوفمبر 1975، وقد تم ذلك في إطار من الشرعية الشعبية تمثلت في حضور أغلبية “الجماعة” التي كانت بمثابة برلمان لسكان المنطقة. ثم بدأت إسبانيا في إجلاء قواتها بينما أخذ المغرب في إرساء إدارته في الساقية الحمراء. أما وادي الذهب فقد تسلمته موريتانيا أولاً، ثم سلمته فيما بعد للمغرب بتاريخ 14 أغسطس 1979 بعد مباحثات توجت بقدوم وفد كبير إلى الرباط يمثل مختلف قبائل وادي الذهب لتأكيد انتماء السكان إلى المغرب، الشيء الذي تلاه انسحاب موريتانيا وإعلان حيادها التام إزاء قضية الصحراء.
ونعود لنختم القول في هذه القضية بما بدأناه، أعني الترابط بين قضية الصحراء وقضية الديمقراطية في المغرب.
نجحت المسيرة الشعبية وأدت مهمتها واسترجع المغرب صحراءه، وحان موعد تدشين “المسلسل الديمقراطي” بالانتخابات المحلية، وقد تزامن ذلك مع تطورات معاكسة للمغرب على الصعيد الدولي، فاقترح حزب المعارضة “الاتحاد الاشتراكي” بهذه المناسبة، تمتين عرى الجبهة الداخلية بتوسيع مدى التجربة الديمقراطية لتشمل الصحراء المسترجعة، وذلك بإقامة نوع من الحكم اللامركزي فيها “يعطي لإخواننا الصحراويين –كما قال رئيس المكتب السياسي للحزب عبد الرحيم بوعبيد- صورة عن المغرب غير الصورة التي يعرفونها اليوم، صورة تجعلهم يطمئنون على مستقبلهم… وفي هذا الإطار نرى أنه يجب التفكير منذ الآن في نوع من اللامركزية الواسعة التي يجب إقامتها في الصحراء، تجعل سكانها يقتنعون بأنهم يمارسون بكل اطمئنان صنع مستقبلهم كجزء لا يتجزأ من الشعب المغربي. إننا إذا فعلنا ذلك سنضع حداً للدعايات المغرضة التي تشوه نوايا الشعب المغربي. إن إقامة نظام لا مركزي ديمقراطي في الصحراء، شيء أساسي وضروري لأن الوضع الجغرافي والاقتصادي والبشري يفرض ذلك”.
وقد تولى كاتب هذه السطور توضيح الفكرة على صفحات جريدة الحزب التي كان يشرف على التوجيه فيها، فكان مما أكد عليه في هذا الصدد “أن الصحراء كانت دائماً وستظل دائماً مغربية، لكن هناك واقعا تاريخيا جغرافيا اجتماعيا لا يمكن نكرانه. فمن الناحية السياسية كانت الصحراء المغربية تابعة للسلطة المركزية. كان السلطان يعين نائباً عنه هناك يكلفه مع المواطنين الصحراويين بالسهر على الأمن والقيام بمختلف الواجبات الوطنية. كانت هناك لامركزية تفرضها طبيعة المنطقة، فعلاقة المنطقة لم تكن مع السلطان مباشرة بل عبر نائب له واسع الصلاحيات. ومن الناحية الجغرافية فإن الصحراء مترامية الأطراف قليلة العمران صعبة المواصلات، فكيف تمكن السيطرة مركزياً على إقليم من هذا النوع. ومن الناحية الاجتماعية ما يزال معظم سكان الصحراء المغربية بدواً رحلاً يتنقلون بإبلهم وخيامهم في هذه الصحراء المترامية الأطراف تنتظمهم نظم وعادات وتقاليد وأعراف هي نسيج وحدتهم الاجتماعية. إن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والبشرية في الصحراء تشكل نمطاً خاصاً: لا يمكن مثلاً منع الصحراويين في إقليمنا المسترجع من الاتصال، بالمصاهرة أو بالتجارة أو بغيرهما، مع السكان الصحراويين في موريتانيا أو في الجزائر، ولا يمكن إقامة حدود جمركية فعالة…”. ذلك ما كتبناه في 1976.
والآن وقد قدم المغرب مشروعاً للحكم الذاتي أوسع، يتساءل المراقبون عما ستكون عليه نتيجة طرحه على مجلس الأمن؟
بالنسبة للمغاربة، النتيجة معروفة. فمن جهة لا ينتظر أن يتوصل مجلس الأمن إلى قرار حاسم، إذ لا ينتظر أن يتحول “المجتمع الدولي” من سياسة “نعم، ولا” إلى قرار حاسم. لكن المغاربة ينظرون إلى القضية من منظور الواقع: لقد استرجعوا صحراءهم، وجيشهم حاضر فيها وقد حصنها بجبال من الرمل ليس من السهل اختراقها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أعادوا بناءها –بل بنوها ابتداء لأنها لم تكن مبنية- بنوها عمرانياً وإدارياً واقتصادياً وثقافياً، بأموال من ميزانية الدولة المغربية ككل.
نعم لقد كانت هناك أخطاء ارتكبت في حق الشباب الصحراوي الذي كان يدرس في الجامعات المغربية، أخطاء ارتكبت منذ الحقبة الاستبدادية التي كان فيها أوفقير وزيراً للداخلية واستمرت الأخطاء ترتكب إلى أواخر عهد المرحوم الحسن الثاني. لكن هناك حقيقة تاريخية لا يمكن الجدال فيها وهي أن الشعب المغربي بقيادة الحسن الثاني ومشاركة فعالة من المعارضة في عهده قد استرجع صحراءه منذ أزيد من ثلاثين سنة، استرجاعاً نهائياً ليس فيه مكان لاحتمال الرجوع إلى الوراء.
أما مشروع إقامة دولة في هذه الصحراء، فلم يعد له مكان في السياسة الدولية: لقد كان ذلك المشروع يهدف إلى إقامة بؤرة “ثورية” تكون منطلقاً لـ”تحرير” ما حولها، في إطار محاربة الإمبريالية زمن الحرب الباردة. كانت هناك “بؤر ثورية” مماثلة على الصعيد العالمي، مثل غينيا وإثيوبيا في إفريقيا الخ. هذا المشروع قد مات بسقوط الاتحاد السوفييتي. وقد استخلص سكان المناطق التي كانت معنية به الدرس اللازم. ولا أعتقد أن الشباب الصحراوي، الذي كان قد انخرط في هذا المشروع، سيتأخرون أكثر مما فعلوا، عن استخلاص الدرس.