عبد الفتاح كيليطو : المنزلة بين المنزلتين
في مقدمة كتاب الرحلة(1)، يقول أحمد فارس الشدياق: “ويعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب، وأدركت فيها من الرغائب، كنت أبدا منغص العيش مكدره(…) لما أني كنت دائم التفكير في خلو بلادنا عما عندهم من التمدن، والبراعة والتفنن، ثم تعرض لي عوارض من السلوان، بأن أهل بلادنا قد اختصوا بأخلاق حسان، وكرم يغطي العيوب ويستر ما شان، ولا سيما الغيرة على الحرم، وصون العرض عما من هذا الصوب يذم، ثم أعود إلى التفكير في المصالح المدنية، والأسباب المعاشية، وانتشار المعارف العمومية، وإلى إتقان الصنائع، وتعميم الفوائد والمنافع، فيحفل ذلك السلوان، وأعود إلى الأشجان”.
كيف حصل هذا الاختلال بين “بلادنا” و “تلك البلاد”؟ هذا هو السؤال الذي يؤرق الشدياق ويثير جزعه وسخطه ” وحسراته على قصور خمم أهل بلاده”(2)، لا سيما عندما يتذكر أنه “عن المسلمين كان أخذ التمدن والفنون في الأعصر الغوابر، وكانوا قدوة في جميع المناقب والمفاخر”. لقد انقلبت الأمور فصار التلاميذ (الإفرنج) أساتذة، بينما تحول الأساتذة (المسلمون) إلى تلاميذ، أو على الأقل هم مطالبون بالتتلمذ على “أولئك الناس”، وهذا ما دفع الشدياق إلى تأليف كشف المخبأ عن فنون أوروبا(3). سيكون واسطة بينهم وبين أوروبا، سيترجم لهم إنجازاتهم لينسجوا على منوالها؛ وإن ما يخول له هذه المهمة أن “شؤونه تتجاذبه يمينا وشمالا”، أي أن له رجلا هنا ورجلا هناك.
وبما أنه يقرض الشعر وهو في أوروبا، كان لا بد أن يطرح على نفسه أسئلة عن وضع الأدب العربي وعلاقته بالأدب الأوروبي، وهذا ما سنحاول إبرازه استنادا على ما ورد في كتابيه الساق على الساق(4) وكشف المخبأ.
في الساق على الساق، نقرأ أن الفارياق (وهو اسم مركب من فارس الشدياق) توجه من جزيرة مالطة حيث كان يقيم ويدرس العربية، إلى تونس خلال عطلة الصيف. “ثم لما أزف رحيل الفارياق من المدينة (تونس) قال له بعض معارفه من أهلها: لو مدحت واليها المعظم فإنه أكرم من أعطى وأنعم، وأكثر الناس ارتياحا إلى الجود والمعروف”. ولما عاد إلى مالطة، “خطر بباله أن ينظم قصيدة في مدح جناب المولى المشار إليه، فأنشأ قصيدة طويلة (…) فلم يشعر بعد أيام إلا والمولى المشار إليه بعث له بهدية من ألماس”(5). الفارياق مدح والي تونس لأنه سمع بكرمه وأريحيته؛ نلمح هنا العقد الذي يربط تقليديا الشاعر بالأمير: قصيدة مدح مقابل مكافأة ما.
بعد مدة، ضاق صدر الفارياق بالتعليم في مالطة، “واتفق في غضون ذلك أن سافر إلى فرنسا المولى العظيم أحمد باشا والي إيالة تونس المفخم، وفرق على فقراء مرسيلية وباريس وغيرهما أموالا جزيلة شاع ذكرها ثم رجع إلى مقامه. فرأى الفارياق أن يهنئه بقصيدة، فنظم القصيدة وبعث بها على يد من بلغها لجانبه. فلم يشعر بعد أيام إلا وربان سفينة حربية يطرق بابه، فلما دخل واستقر به المجلس قال للفارياق: قد بلغت قصيدتك لجناب سيدنا الأكرم، وقد أمرني أن أحملك إليه في البارجة. فلما سمع ذلك استبشر بالفرج من حرفته”(6). وفي هذا النص إشادة بوالي تونس الذي شمل كرمه فقراء فرنسا، إلا أن ما يثير الانتباه أن الفارياق استصحب عائلته إلى تونس، فلم يستأ الوالي من ذلك، “وهنا ينبغي أن نلاحظ مزية الكرم التي خص الله تعالى بها جيل العرب دون سائر الأجيال (…). ولو أن أحد أعيان الإفرنج دعا شخصا وأتاه ذلك الشخص ومعه غير نفسه لجبهه عند اللقاء بل لم يكن ليلقاه قط”(7). الإشادة بالممدوح تحولت تدريجيا إلى الإشادة بالعرب، أكرم خلق الله، وإلى الغض من شأن الأوروبيين، أو الإفرنج كما يسميهم النص، الذين يقفلون الباب في وجهك إذا استصحبت أشخاصا لم يدعهم.
ترى ما الذي حدا بالفارياق إلى عقد موازنة بين العرب والإفرنج عند حديثه عن والي تونس؟ سيتضح لنا هذا الاستطراد بعد قليل؛ لنكتف الآن بالقول إن الفارياق انتقل بأهله إلى تونس، “وهناك تعرف بجماعة من أهل الفضل والأدب، منهم من أدبه ومنهم من أترفه. وهناك حظي بتقبيل يد المولى المعظم ونال منه الصلات الوافرة”(8). إنها فترة سعادة بالنسبة للفارياق، فالكل اعترف به واحتفى به؛ بعبارة أخرى ارتقى إلى مرتبة شاعر البلاط المدلل، شأنه في ذلك شأن شعراء الماضي الغابر، المتنبي مثلا. إلا أنه خلال مقامه بتونس، حدث شيء لم يكن في حسبانه، فلقد “سأله وزير الدولة: هل تعرف اللغة الفرنساوية؟ قال: لا ياسيدي ما عنيت بها، فإني ما كدت أتعلم لسان الانكليز حتى نسيت من لغتي قدر ما تعلمته منه. فقد قدر على رأسي أن يسع قدرا معلوما من العلم، فمتى زاد من جهة نقص من أخرى”(9). تتوقف المحاورة هنا دون أن نعلم بالضبط قصد الوزير من وضع سؤاله، وهو حقا سؤال غريب إذا أدخلنا في اعتبارنا أنه لم يطرح أبدا على شاعر قديم؛ لم يكن يخطر ببال أي وزير أن يسأل شاعرا عن معرفته المحتملة بلغة أخرى غير العربية. نفهم من طرف خفي أن الوزير كان ينوي إسناد وظيفة في إدارته للفارياق لو كان هذا الأخير متمكنا من اللغة المذكورة، ونفهم أن الفارياق الذي مل من تدريس العربية بمالطة أضاع فرصة ثمينة في تونس بسبب جهله بالفرانساوية. إن شيئا ما قد تغير في العالم، بحيث أصبح العرب بحاجة إلى لغة أخرى غير لغتهم. إن والي تونس يهش للمدح ويكافئ عليه، لن يمنح منصبا في ديوانه إلا لشخص يتقن الفرنسية. في عالم يسود فيه الإفرنج، لم تعد العربية كافية (بل إن الإنجليزية التي أشار الفارياق إلى معرفتها لم تحرك الوزير، لاعتبارات تاريخية معروفة).
على ما يبدو (ومع مراعاة روح الدعابة السائدة في النص)، لم يتعلم الفارياق الفرنسية لأنه خشي أن يفقد العربية، العربية التي نسي قسما منها عندما درس الإنجليزية (خلال أسفاره يحمل دائما معه القاموس المحيط للفيروزابادي). إن تعلم لسان أجنبي يتم على حساب اللسان الأصلي؛ لقد نسي الفارياق نصف عربيته عندما حفظ الإنجليزية، ولو درس الفرنسية لما بقي له من العربية إلا الثلث… من الراجح أن هنا إحالة إلى الجاحظ الذي قال في كتاب الحيوان متحدثا عن “الترجمان”: “وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية. ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما، لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها. وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعتين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة؟”(10). إلا أن هناك فرقا بين وضعية الجاحظ ووضعية الشدياق: الأول لم يكن بحاجة إلى دراسة لغة غير العربية، بينما كان لا بد للشدياق من معرفة لغة بل لغات إفرنجية.
هل كان بإمكان الشدياق تكرار تجربته التونسية في أوروبا؟ يبدو هذا مستحيلا، فلا يتصور أن ينشئ شاعر عربي قصيدة عربية في مدح أمير إفرنجي، بل لا يتصور في القرن التاسع عشر الأوروبي أن يقوم شاعر، كيفما كان لسانه، بإنشاء قصيدة مدح. لو فعل لبدا عمله في غير أوانه ومن قبيل ترهات دون كيخوتي. ومع ذلك، فلقد مدح الشدياق الملكة فيكتوريا: “وقد كنت مدحت ملكة الإنكليز بقصيدة وقدمتها لضابط البلد وهو وكل بها زوجته لتهديها إلى بعض الخواتين القائمات بخدمتها، وترجمتها أيضا إلى لغتهم، وإلى الآن لم يأتني عنها جواب ولا أعلم هل وصلت أو لا”(11). هل أرسل الشدياق قصيدته باللغتين أوبالإنجليزية وحدها؟ كل ما نعلم أنه انتظر لعدة سنوات وعبثا ردا من الملكة أو من أحد أفراد حاشيتها. لقد تكبد عناء ترجمة القصيدة إلى الإنجليزية تسهيلا للتواصل، كما استنجد بضابط البلد لتوصليها، ولكن مجهوده ذهب سدى. والنتيجة التي استخرجها من هذا الامتحان “أن نظم القصائد سواء بالعربية أو غيرها أسهل من تقديمها للممدوح من ملوك الإفرنج”. ذلك أنه “لم تجر العادة عند ملوك الإفرنج بأن يقرأوا قصائد مدح فيهم ولا غيرها أيضا مما يخاطبون به وإنما يقرأ ذلك كله كتاب أسرارهم وهم يجاوبون عنها المخاطب بحسبما يرونه صوابا”(12).
هل تاب الشدياق بعد هذا الفشل من مدح ملوك الإفرنج. أبدا، فقلد مدح لويس نابوليون عندما قام بانقلاب 2 دجنبر 1851: “ثم عدت إلى باريس واتفق حينئذ أن تولى السلطان الآني ضبط الأمور السياسية وهو يومئذ رئيس مجلس الشورة وقهر مناوئه وحاسده، فأشار علي بعض معارفي أن أمتدحه بقصيدة، فإنه ذو إلمام بالعربية وله إطلاع على لغات كثيرة”(13).
جاءت الإشارة من بعض المعارف، تماما كما حدث بالنسبة لوالي تونس. الشدياق يوحي بأنه لم ينظم القصيدة من تلقاء نفسه، وإنما بإيعاز من شخص ما لا يذكر اسمه، فكأنه خضع لضغط خارجي. هل ينبغي أن نصدقه عندما يعلن أنه لم يأخذ المبادرة؟ المسألة تتعدى صاحبنا وتحيل إلى طقس غارق في القدم؛ فجل المؤلفين القدماء يذكرون في افتتاحيات مصنفاتهم أن شخصا طلب منهم إنشاء كتاب في موضوع من المواضيع، شخصا لا يسمونه عادة، وقد يكون ذا نفوذ أو مجرد صديق. وهذا الطقس يترك لدينا الإنطباع أنهم كانوا يعتبرون الكتابة أمرا جسيما وخطيرا، وأنهم كانوا بحاجة إلى الإحتماء وراء سلطة للشروع في الكتابة. بهذا المعنى ليست الكتابة نتيجة قرار ذاتي بقدر ما هي استجابة لصوت خارجي ملح، لأمر مطلق لا يجوز تغافله أو التغاضي عنه.
إلمام نابوليون بالعربية يقابله إلمام الشدياق بالفرنسية (التي درسها أثناء مقامه بباريس): إنها مقابلة جديرة بالتسجيل. كل من الشاعر والأمير “له إطلاع على لغات كثيرة”، ومع ذلك هناك فجوة كبيرة بينهما، الفجوة الموجودة بين النسق الأدبي العربي والنسق الأدبي الإفرنجي. فقصيدة الشدياق تشتمل على ستين بيتا، وتبدأ بمقدمة غزلية من ثلاثة عشرة بيتا، وغير خاف لزوم هذه المقدمة رغم تأفف بعض الشعراء منها. ولقد حاول القدماء (ابن قتيبة مثلا) تبريرها بكون النسيب يخلق انطباعا حسنا لدى الممدوح يجعله يهش للقصيدة ويرتاح لسماعها. وعن المطلع الغزلي يقول الشدياق: “وهو في الحقيقة أسلوب غريب للعرب. قال العلامة الدسوقي: اعلم أنه قد جرت عادة الشعراء أنهم إذا أرادوا مدح إنسان أن يذكروا قبله الغزل لأجل تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر والمبالغة في الوصف وترويح النفس ورياضتها”(14). وفي مناسبة سابقة لمس الشدياق عن قرب غرابة هذا العرف: “ولما ترجم موسيو دوكات قصيدتي التي مدحت بها المرحوم أحمد باشا باي والي تونس وطبعها مع الترجمة، كان بعضهم يسألني هل اسم الباشا سعاد، وذلك لقولي في مطلعها: -زارت سعاد وثوب الليل مسدول- فكنت أقول: لا بل هو اسم امرأة، فيقول السائل: وما مدخل المرأة بينك وبين الباشا؟”(15) المرأة بالنسبة للإفرنجي دخيلة في قصيدة المدح، إنها تتسلل بين رجلين، المادح والممدوح، تندس في شأن لا يهم إلا الرجال، إنها زائدة، غير مجدية، لا طائل تحتها ولا مبرر لوجودها.
رغم عدم اقتناع الشدياق بضرورة افتتاح القصيدة بمقدمة غزلية، فإنه لم يكن بوسعه أن يتملص منها، وإلا لوسم بالنقص من طرف أندداه ونظرائه. ذلك أن القصيدة وإن كان المقصود منها لويس نابوليون، فإنها موجهة أيضا للعارفين بالشعر ولجهابذة النقد الذين سيحكمون عليها في نهاية المطاف. بهذا المعنى فإن للقصيدة مقصدين ومتلقيين: نابوليون وحاشيته من جهة، والقراء العرب المحتملين من جهة أخرى، وهي بالتالي تتضمن همين متناقضين: إن أرضى الشدياق القارئ العربي بمراعاة المطلع الغزلي، فإنه لا محالة سينفر القارئ الأوروبي. فهو يعلم “أنه لا شيء أفظع عند الإفرنج من أن يروا في قصائد المدح تغزلا بامرأة ووصفها بكونها رقيقة الخصر ثقيلة الكفل نجلاء العينين سوداء الفرع وما أشبه ذلك فشعرهم كله خصي(16). وأفظع منه التشبب بغلام. وأقبح من هذا وذاك نسبة شيء من صفات المؤنث إلى المذكر كقول الشاعر -كان ثدياه حقان- “(17).
كيف سيحاول صاحبنا التوفيق بين الذوق العربي والذوق الإفرنجي؟ سيبدأ قصيدته بانتقاد العرف الذي يفرض النسيب على الشاعر:
من شأن أهل الهوى أن يفرطو الغزلا قبل المديح وإلا يندبـــوا الطلــــــــــــلا
أما النسيب فلا حسناء تشغلنــي إذ قلب ذي الحسن عن حسن الوفاء خلا
بلى أنا ناسب وجدا بطيف كرى ما كنت أعرفه من قبل أن وصـــــــــــلا(18)
الغريب في الأمر أن الشدياق يؤكد أنه ضد النسيب التقليدي، ثم لا يلبث أن يتغنى بحسناء؛ النفي والإنكار يقودان إلى التوكيد والإثبات. هذا التأرجح بين السلب والإيجاب ينعكس على صورة المرأة التي يتغنى بها، فهي “طيف كرى”، لا وجود لها في الواقع، إنها زائرة وهمية، مجرد أضغاث أحلام. لم يكن بوسع الشدياق أن يقصي المرأة عن القصيدة، فحولها إلى شبح يظهر في المنام، إلى خيال يتراءى “والليل معتكر”.
يعلن الشدياق أنه “نظم هذه القصيدة في يوم واحد”، مشيرا إلى مهارته وحذقه وتمكنه من فن القريض، “إلا أنه بقيت الصعوبة في تقديمها لأعتاب الممدوح”(19). فمن الأكيد أنها ستبقى حبرا على ورق وبلا جدوى إذا لم تصل إلى نابوليون: “فاجتمعت بالفاضل اللبيب والصديق الأديب الخواجا روفائيل كحلا وطالعته في ذلك فقال: أنا أعرف وسيلة لتقديمها ولكن ينبغي أن نترجمها إلى اللغة الفرنساوية، فإن معانيها لا تضيع بالترجمة إذ هي منسوقة على نسقهم لولا التغزل بالطيف، لكنه شيء عدمي ولا سيما أنك أشرت في مطلع القصيدة إلى إنكار الغزل قبل المديح. فمن ثم ترجمناها وأطلعنا عليها أحد أدبائهم فقال: الأولى أن ترسلوها غير مترجمة، فإن السلطان عنده تراجمين يترجمونها له، فقدمت كما هي”(20). على ما يظهر، لم يرض الأديب الفرنسي عن الترجمة فنصح الصديقين بإرسال النص الأصلي؛ هكذا لن يكون الاتصال مباشرا وإنما عن طريق تراجمة السلطان. “وبعد أيام لم نشعر إلا والبريد يطرق الباب، وإذا بيده رسالة من كاتب السلطان باسم الخواجا المذكور وباسمي، مضمونها أن القصيدة بلغت جنابه العالي وحسن موقعها لديه وأنه يشكرنا على ذلك شكرا جزيلا”(21).
ثم انتهى كل شيء بهذه الرسالة الجوابية الموجهة إلى الشريكين. على عكس الملكة فيكتوريا، فإن لويس نابليون (أو كاتبه) كلف نفسه عناء الرد على المديح. هل كان الشدياق ينتظر منه شيئا آخر؟ إنه يجيب بالنفي: “لم يكن مقصودي بهذا المدح سوى نهمة الشعراء المعدية إلى تحمير دواوينهم بقولهم: وقال يمدح الملك، وقال يمدح الأمير”(22). إنه مصاب بعدوى الشعراء التي تدفعهم إلى المدح ملتمسين الاعتبار الذي يحظون به عندما ترد في دواوينهم أسماء وألقاب عظماء الوقت. لكنه يتناسى أن عادة الشعراء أيضا أن يدبجوا قصائد المدح من أجل ما يأملونه من نوال وعطاء. ألم يكن هذا شأنه مع والي تونس الذي أرسل سفينة حربية لاستقدامه وإكرامه؟ على كل حال لم ينل شيئا من لويس نابليون، لم يتوصل بدعوة من جنابه العالي، بل لم يتمكن حتى من رؤيته.
ولا شك أن هذا حز في نفسه فظل ينتظر فرصة لعقد الصلة به من جديد وتذكيره بالدين الذي في عنقه. ذلك أن “السلطان” لم يكافئ على المدح الذي قدم له، وهذا لا يجوز في سياق العلاقة التقليدية بين الشاعر والأمير. ولقد سنحت الفرصة للشدياق سنة بعد ذلك، عندما أعاد لويس نابليون رسم الإمبراطورية وتلقب بنابليون الثالث: “ثم إنه في خلال هذه الأوقات استقل السلطان المشار إليه بولاية الملك ولقب بالإمبراطور فنزغني نازغ آخر من -وقال يمدح الأمير- إلى أن أهنئه بقصيدة وأقدمها على يد رئيس تراجمين بابه الكنت دكرانج”(23). القصيدة الجديدة تتكون من ثلاثين بيتا (نصف عدد أبيات القصيدة الأولى)، وما يميزها أنها مدح خالص، أي أنها خالية من النسيب بحيث تبدأ هكذا:
للويس نابليون حق الســــؤدد والملك إذ هو في المعالي أوحــــد
بتخليه عن المقدمة الغزلية وبهجومه على المدح انطلاقا من البيت الأول، اعتقد الشدياق أنه أزاح أكبر عقبة بينه وبين الممدوح. لكي يقبل شعره أخل بنظام القصيدة المألوف وجحد المرأة بصفة جذرية وأنكر حق تصدرها للمديح. لقد قام بعملية بتر شعره وإخصائه من أجل التقرب من الذوق الأوروبي. لكن أيكفي هذا ليصير مقبولا مجازا؟ أبدا، وهذا ما تبين له عندما قرأ القصيدة على رئيس التراجمة: “قال: ليس من هذه الصفات التي نسبتها إلى السلطان ما هو مختص به وحده، فإنه يصلح لأن يخاطب به أي ملك كان”(24). كلام الشدياق كلام عام لا يناسب بالتحديد شخص نابليون، إنه مرآة تعكس صورة كل الملوك ولا تعكس صورة ملك بعينه. لن يجد نابليون نفسه فيها، وبهذا المعنى فإن قصيدة المدح العربية تسلب الممدوح خصوصيته وميزته فيضيع في نمط مثالي تختلط فيه كل الصور. وهذا ما يفسر ظاهرة أشار إليها النقاد العرب القدماء، وهي أن بعض الشعراء كانوا يمدحون عدة ملوك بقصيدة واحدة. فما دامت القصيدة تنطبق على كل واحد منهم، فلم سيتجشمون كل مرة مشقة إنشاء أبيات جديدة؟ يكفي الشاعر، والحالة هذه، أن ينظم قصيدة واحدة وينشدها لكل الملوك الذين يصادفهم في طريقه…
إضافة إلى هذا هناك الحاجز اللغوي والثقافي، أي انعدام التواصل، وهو ما أشارإليه رئيس التراجمة في وصفه لقصيدة الشدياق: “وهي مع ذلك عويصة لا يمكن ترجمتها ولو قدمتها كما هي لما استحسن منها غير الخط والشكل فقط”(25). إذا كان هذا هو الارتسام الذي خرج به هذا العالم بالعربية من قراءة القصيدة، فماذا سيكون شعور القراء العاديين؟ ستتحول بين أيديهم، بدءا بنابليون، إلى حروف بلا معنى، سينظرون إلى متنها كما ينظرون إلى علامات لغة ميتة منقوشة على جدران معابد عتيقة، رموز غامضة لم يعد يفهمها أحد، اللهم إلا بعض المختصين في علم الآثار، أي المستشرقين بالنظر إلى هذه الحالة.
الغريب في الأمر أن الشدياق لم يكن يجهل هذا التفاوت بين الأدب العربي والأدب الأوروبي الذي كان مطلعا عليه. فهو يروي أنه كان على علم بهذه الحال قبل أن ينظم قصيدته الأولى في مدح نابليون؛ لقد كان يدرك أن الإفرنج “ينكرون المبالغة في وصف الممدوح، فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب ويجعلونه ضربا من التاريخ فيذكرون فيه مساعي الممدوح ومقاصده وفضله على من تقدمه من الملوك بتعديد أسمائهم، أما تشبيهه بالبحر والسحاب والأسد والطود والبدر والسيف فذلك عندهم من التشبيه المبتذل، ولا يعرضون له بالكرم وبأن عطاياه تصل إلى البعيد فضلا عن القريب، فهم إذا مدحوا ملوكهم فإنما يمدحونهم للناس لا لأن يصل مدحهم إليهم. ومع علمي بهذه الحال لم يمكنني مقاومة نزغة النهمة العربية إلى تقديم القصيدة المذكورة ولا سيما لما سمعت بأن الممدوح يعرف لغتنا”. الفرق بين المدح في الأدبين يعود إلى نوعية التعاقد بين المادح والممدوح. فالمدح العربي يتأسس كما أسلفنا على عقد شخصي بين الشاعر والأمير يتم بموجبه تقديم قصيدة مقابل ثواب ما، أما المدح الأوروبي فينبني على عقد بين مؤلف المدح و “الناس”، أي عموم القراء، ولهذا لا يرد فيه ذكر الكرم لأن المادح لا ينتظر مكافأة على خطابه. إن الممدوح في الحالة الأولى يخاطب مباشرة، بينما هو في الحالة الثانية لا يتحدث عنه إلا بضمير الغائب.
إذا لم يقاوم الشدياق الرغبة في تقديم القصيدة الأولى إلى نابليون، فإنه فيما يخص القصيدة الثانية اقتنع بحجج رئيس التراجمة: “فلهذا أضربت عن تقديمها وشكرته على نصحه، ولكني لا أضرب عن قيدها هنا حتى ينتفخ بها بطن هذا الكتاب”(26). لن تضيع تماما إذ ستؤول إلى القارئ العربي، هذا القارئ الذي سيكون الملجأ الأخير بعد أن أعرض عنها القارئ الأوروبي. يلوذ الشدياق بذويه بعد أن أنكره الأجانب وردوا له شعره بلطف مشوب بشيء من الاحتقار.
يروي الشدياق هذه التجربة بعد سنوات من حدوثها، ولعل هذا ما يفسر نبرته الساخرة، ونظرته إلى الأشياء بشيء من التجرد والترفع. ولسنا بحاجة إلى كثير من الخيال لنتصور خيبة أمله عند فشله الذريع في انتزاع الاعتراف بشعره من الإفرنج. لكن الأمر يتجاوز حساسيته الشخصية ليشمل الشعر العربي برمته. ذلك أن قصيدتي الشدياق كناية عن الشعر العربي، ورفضهما يعني رفض الشعر العربي بكافة فنونه، وبالتالي رفض الأدب العربي الذي يشكل الشعر أهم مكوناته. خارج فضائه المعهود ليس للأدب العربي انتشار ورواج، بل ليس له وجود إطلاقا. وبالنسبة للشدياق يترتب عن هذه القطيعة العنيفة بين أوروبا والعالم العربي شعور بإهانة مزدوجة، إهانة نرجسية وإهانة ثقافية.
لا نلمس هذا الشعور في كتاب كشف المخبأ الذي ألف سنة 1857(27)، أي بعد مرور برهة من الدهر على الحادث. لكن الجرح، قبل هذا التاريخ، لم يلتئم وظل ينزف في الساق علىالساق الذي نشر سنة 1855، أي ثلاث سنوات بعد إنشاء قصيدة المدح الثانية. فالشدياق يرخي العنان في هذا الكتاب لغيظه وحنقه، فيقول عن الإفرنج في معرض وصفه للحفاوة التي لقيها في تونس: “وليت شعري أين من تكرم من ملوكهم بإرسال بارجة لاستحضار شاعر ولغمره إياه بالمال والهدايا النفيسة؟ فلعمري إن مادح ملوكهم لا جائزة له من عندهم غير تسفيهه وتنفيذه. مع أنهم أشد الخلق حرصا على أن يشكرهم الناس ويمدحوهم. ولكنهم يأنفون من أن يمدحهم شاعر يريد نوالهم (…). وما أحد من شعراء الإفرنج استحق أن يكون نديما لملكه. فغاية ما يصلون إليه من السعادة والحظوة عند ملوكهم إنما هو أن يرخص لهم في إنشاد شعرهم في بعض الملاهي(28)”. ثم يضيف: “ولهذا أي لكون الكرم مزية خاصة بالعرب لم ينبغ في أمة من الأمم شعراء مجيدون مفلقون كشعرائهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة. وذلك من زمن الجاهلية إلى انقراض الخلفاء والدولة العربية. فإن اليونانيين يفتخرون بشاعر واحد هو أوميروس والرومانيين بفرجيل والطليانيين بطاسو والنمساويين بشلر(29) والفرنسيس براسين وموليير والإنكليز بشكسبير وملطون وبيرون. فأما شعراء العرب المبرزون على جميع هؤلاء فأكثر من أن يعدوا، بل ربما كان ينبغ في عهد واحد في زمن الخلفاء مائتا شاعر كلهم بارع فائق”(30).
لمن يوجه الشدياق هذا الخطاب؟ للعرب الذين يعتبرهم أكرم الناس وبالتالي أشعر الناس. فإذا كان الإفرنج متفوقين في “التمدن”، فإن العرب أعلى مقاما في الشعر. إلا أن هناك شيئا غامضا في كلامه، ذلك أن الشعراء العرب الذين يعتز بهم نبغوا خلال فترة بعيدة وساحقة في القدم، “في زمن الخلفاء”؛ فالشعر يشكل ماضي العرب، بينما التمدن يؤسس حاضر الإفرنج… ثم هناك شيء آخر أكثر التباسا: من يقول إن العرب أرفع منزلة في الشعر؟ من يعترف لهم بهذه المفخرة؟ الشدياق لا يبني رأيه على أي سند إفرنجي، أي أنه لا يذكر مرجعا أوروبيا يؤيد هذا الحكم القاطع. إنه يعترف بما حققه الإفرنج “من التمدن، والبراعة والتفنن”، ولكن الإفرنج لا يعترفون بشعره ولا بالشعر العربي بصفة عامة، بل إن ما أورده من حكمهم على أسلوب القصيدة يدل على نفورهم منه وإنكارهم له باعتباره شيئا فظيعا، على الأقل في بعض جوانبه.
وليت الأمر اقتصر على الإفرنج، ففي سياق حديثه عن الصمت الذي قوبل به مدحه لملكة الإنجليز يضيف الشدياق: “وكل من تعلم لغات الإفرنج من علية الترك وأشرافهم سلك هذه الطريقة. فإني نظمت قصيدة في ولي باشا سفير الدولة العلية في باريس، وأخرى في نامق باشا، وأخرى في محمد علي باشا، ولم تنتج إحداها سلبا ولا إيجابا”(31). إن موقف هؤلاء السادة الأتراك من شعر الشدياق (والشعر العربي؟) لشبيه بموقف الإنجليز والفرنسيين. وهم في نظر الشدياق معذورون نوعا ما، ذلك أن سلوكهم نابع من تعلمهم لغات الإفرنج وما يرافق ذلك من تبن لعادات القوم وآدابهم، بحيث إن قصيدة المديح تبدو لهم بناء متهافتا مهجورا. وإذا استمرت الأمور على هذه الوتيرة، فإن العدوى ستنتقل لا محالة بعد فترة وجيزة إلى العرب…
مباشرة بعد ذكر الشدياق لإعراضه عن تقديم قصيدته الثانية إلى الإمبراطور نابليون، ينتقل إلى موضوع آخر قريب وبعيد: “وفي غضون ذلك شرعت في تأليف كتاب الفارياق”(32)، يقصد كتاب الساق على الساق. لماذا هذه الإشارة العابرة؟ أي تعويض كان يبحث عنه من خلال هذا التأليف؟ ما سر الانتقال من النظم إلى النثر، من إنشاء قصائد المديح إلى تأليف كتاب يتحدث فيه عن… عن ماذا؟ لنترك جانبا أمر تصنيف هذا الكتاب ضمن الرحلة أو الرواية أو السيرة الذاتية بضمير الغائب، ولنكتف بوضع السؤال التالي: أي قول يتسنى في منتصف القرن التاسع عشر لأديب عربي شاهد أوروبا ولاحظ البون الشاسع الذي يفصلها عن عالمه المألوف؟ ماذا بوسعه أن ينشئ عندما يرى على مضض أن الأدب الذي تغذى به ونشأ في أحضانه لا ينسجم مع الذوق الأوروبي؟ ماذا يبقى له عندما يدرك، بصفة جلية أو غامضة، أن ثقافته الأصلية تنتمي إلى الماضي، بينما ثقافة الإفرنج مرادفة للحاضر؟ أكيدا أنه لن يتنكر لماضيه ولن يترك فرصة تمر دون الإعلان عن وفائه له، ولكنه في آن واحد لن يسعه إلا أن يستشف مستقبل العرب في حاضر الإفرنج، إنه والحالة هذه سيصف وضعيته، سينكب على عقد موازنة لا نهائية بين العالمين، بين الزمانين، أو إن فضلنا بين الساقين. أجل، سيضع ساقا على ساق وسيستغرق في التفكير في موقعه وموضعه، أو كما قال شاعر ألماني من القرن الثالث عشر (ملمحا على ما يبدو لتفتت عالم الفروسية):
“جلست على حجر
ووضعت ساقا على ساق،
وأسندت عليهما مرفقي،
ثم دعمت بيدي
ذقني وخدي،
وهكذا أخذت أتأمل
كيف ينبغي العيش في هذا العالم”
الهوامش
1 – العنوان الكامل لهذا الكتاب (الذي يشتمل في الواقع على كتابين) هو: كتاب الرحلة الموسومة بالواسطة إلى معرفة مالطة، وكشف المخبأ عن فنون أوربا، تونس، 1283(1867). وعلى هذه الطبعة اعتمدت لإيراد مقاطع كشف المخبأ التي أستشهد بها.
2 – فمثلا عندما يتحدث عن فصل السلط في إنجلترا، يقول: “فيا ليت شعري متى نصير نحن ولد آدم بشرا كهؤلاء البشر. ومتى نعرف الحقوق الواجبة لنا وعلينا؟ أتخال أن التمدن معناه أن يكون الناس في مدينة وفيها ذئاب وسباع؟ كلا ثم كلا” (كشف المخبأ، ص، 155).
3 – “رغبتي في حث إخواني على الإقتداء بتلك المفاخر”.
4 – اعتمدت على طبعة القاهرة، المكتبة التجارية، د.ت. (1920)، جزآن.
5 – الساق، II، ص 131-132
6 – الساق، II، ص 196-197
7 – الساق، II، ص 197-198
8 – الساق، II، ص 200
9 – الساق، II، ص 200
10 – الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1938-1945، I، ص 76.
11 – كشف المخبأ، ص 302
12 – كشف المخبأ، ص 302
13 – كشف المخبأ، ص 300
14 – كشف المخبأ، ص 303
15 – كشف المخبأ، ص 303
16 – عن لسان العرب، “الخصي من الشعر: ما لم يتغزل فيه”.
17 – كشف المخبأ، ص 303
18 – كشف المخبأ، ص300
19 – كشف المخبأ، ص 302
20 – كشف المخبأ، ص 303-304
21 – كشف المخبأ، ص 304
22 – كشف المخبأ، ص 302
23 – كشف المخبأ، ص 304
24 – كشف المخبأ، ص 304
25 – كشف المخبأ، ص 304
26 – كشف المخبأ، ص 304
27 – انظر محمد الهادي المطوي، أحمد فارس الشدياق، حياته وآثاره وأراؤه في النهضة العربية الحديثة، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1989، I، ص 199.
28 – الساق، II، ص 198-199
29 – هذا الشاعر في الواقع ألماني.
30 – الساق، II، ص 198
31 – كشف المخبأ، ص 302
32 – كشف المخبأ، ص 306.