الإنسان الشارد حسب طه عبد الرحمن
بسط الفيلسوف طه عبد الرحمن تصوره للإنسان الشارد في كتابه الأخير الموسوم بـشرود ما بعد الدهرانية، ونحن هنا نطمح للقيام بعرض مختصر لما حمله من أفكار، يكون كالمدخل لمن لم تُتح له فرصة الاطلاع عليه، لعله يجد ما يدفعه إلى خوض غمار تجربة قراءة هذا النص البديع، الذي جاء تتويجا لمجموع أعمال الرجل ولو أنه يعتبره مجرد مقدمة لكتاب قادم، يُنتظر أن يكون أشد وقعاً وأقوم قيلا. شيد طه عبد الرحمن نقده لتيار الخروج من الأخلاق على أساس حقيقة جامعة هي أن الإنسان قد وضعت له حدود بالحفاظ عليها تُحفظ له آدميته، كما أسدلت عليه حُجب بها تُستر سوأته، بمعنى أن الأخلاق تنبني على مبدأي حفظ الحدود وستر السوءات، وبالتالي فإن التيار الشارد يحركه مبدآن معاكسان هما: تعدي الحدود وكشف السوءات. اجتهد طه في إبراز صيغ هذا الشرود بدلالة هذين المبدأين، وقد جمعها في ثلاث هي: الصيغة الآدمية (نسبة للإنسان الأول)، الصيغة القابيلية (نسبة لقابيل قاتل هابيل) والصيغة السدومية (نسبة إلى قرية سدوم). كل صيغة يقابلها شكل من الأشكال التي يتخذها الإنسان الشارد؛ فالأولى للإنسان الفائق (لدى نيتشه)، الثانية للإنسان السيد (لدى باطاي) والثالثة للإنسان المارد (لدى ساد). هذا عن الجانب الفلسفي، أما الجانب الآخر فيتجلى في التحليل النفسي مع فرويد ولاكان.
جانب الفلسفة:
يسعى الإنسان الفائق إلى احتلال مكان الإله بعد إعلان موته، وبذلك فأول همه هو تجاوز ذاته مثلما أن القرد تطور، في مرحلة سابقة من الوجود في العالم، ليصبح إنسانا بفعل إرادة القوة (أي إرادة الحياة) التي لا تذَر سوى الأحسن والأقوى. طبعا، ظهور الإنسان الفائق دونه تنائف، أدناها الاشتغال على هدم الأخلاق المقررة (المسيحية التي أعمل فيها نيتشه معوله باعتبارها أصناما، وهو في الواقع يصف الدين بالعُصاب والصرع الخفي الذي من أعراضه رفض الدنيا وموت الإرادة)، وأقصاها إنشاء قيم جديدة (لاأخلاقية أو من وراء الخير والشر) ملائمة لمقام الإنسان الجديد، ولا عجب أن يجد هذا الإنسان أسوته في الإله ديونيزوس المعروف بالذهاب في تعدي الحدود إلى حد الثمالة (علما أنه إله الخمر عند اليونان). ولا يخفى أن نيتشه يميز في الأخلاق بين ثلاثة أطوار، طور ما قبل الأخلاق، طور الأخلاق وطور مؤقت خارج الأخلاق في انتظار التوصل لإقامة قيم أخرى للإنسان الأخير؛ ذلك أن القيم القديمة في نظره ليست سوى أحكام مسبقة تلقفتها الخاصة (الفلاسفة من أمثال أفلاطون وكانط) من العامة وألبستها لباسا فلسفيا جعلها تظهر في مظهر راق، وبذلك تقبلها الناس (كأنهم ليسوا واضعيها في صورتها الأصلية) بقبول حسن واتخذوها (على الأقل نظريا) كالمعيار في معاملاتهم ، وهم ينتهكونها في حياتهم بصفة مستمرة كأنها ما وجدت إلا لتنتهك !
خاض جورج باطاي تجربة داخلية شبيهة بالتجربة الصوفية، مع فارق أساسي وجوهري هو أن الصوفي يحيا حياة العابد أو قل العبد الخاضع لمولاه (بما أنه يقر بوجود إله ويتقرب إليه باتباع أوامره واجتناب نواهيه) وصاحبنا يعيش سيدا في عالمه الخاص كالإله. معلوم أن باطاي هو أكبر من اشتغل تنظيرا على مفهوم التعدي، حتى أن الفيلسوف الشهير ميشيل فوكو قد أفرد للأمر مقالا هاما عنوانه مقدمة في التعدي، وأي تعد أفدح من تجاوز كل الحدود الممكنة من أجل بلوغ السيادة، علما أن كل حد لديه يحمل في ذاته دعوة ملحة لانتهاكه، حد وانتهاك، ثم حد فانتهاك وهكذا إلى أن يخرج المرء من حد الانسانية الضيق إلى أفق الألوهية الرحب؛ فتعدي الحد الواحد لا يعني ألبتة فناءه، بل هو باق، منبعث يغري بتكرار تعديه. شبق وفحش متصلان، مستأنفان من أجل إيجاد الإنسان السيد.
الإنسان المارد، الذي رسم ملامحه المركيز دي ساد، هو إنسان سدومي، وهو بصفة شخصية قد مارس السدومية ونراها مثلا حاضرة بشكل رهيب في كتابه المعروف الفلسفة في الخدر. والخاصية الأساسية لهذا الإنسان هي الاستمتاع بلا قيد أو شرط، أو قل الاستمتاع المطلق، حتى كأن الآخر مجرد موضوع أو شيء لا يصلح إلا للمتعة وليس من حقه الاعتراض على الممارسات السادية التي تفرض عليه، هذا إذا كان هذا الآخر في بداية الطريق (كالفتاة بطلة رواية ساد المذكورة أعلاه)، أما إذا كان صاحب تجربة طويلة في المجال فهو يخضع لكل الممارسات بطيب خاطر، إن جاز لنا التعبير، اعتبارا لأنه اعتاد على كل ألوان الألم والأذى المترتبين عن السدومية ولأنه قطع كل رباط يربطه بالحياء، وبالتالي صار ممن يسري عليهم القول: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء.
جانب التحليل النفسي:
ينطلق فرويد، في تحليله لنشأة الدين، من أسطورة من إنشائه مفادها أن أول تواجد إنساني كان في هيئة جماعة بدائية يترأسها أب بالغ السطوة، يحتكر كل الإناث ويهدد أبناءه بالخصاء إن هم اقتربوا منهن، الشيء الذي دفع هؤلاء إلى الثورة عليه في آخر المطاف والتهامه بعد قتله، ثم ما لبثوا أن ندموا على فعلتهم ونزعوا إلى إضفاء نوع من القداسة على ذكراه تكفيرا عن الذنب. ومن هنا ظهور الدين أولا في شكل طوطم، وبعد تفرق الأبناء وتشكل جماعات أخرى تفرعت عن الجماعة الأولى تعددت صور الطوطم، وبذلك تعددت الآلهة إلى أن اجتمع الناس في فترة لاحقة على إله واحد فكانت بذلك الأديان التوحيدية ومنها دين موسى الذي أفرد له فرويد كتابا خاصا (هو موسى الإنسان ودين التوحيد)، مكملا لكتاب سابق يحمل عنوان الطوطم والطابو. واضح هنا أن الدين المسيحي حاضر بطريقة ضمنية من خلال فكرة الأب، إذ كان الأب على رأس الجماعة الأولى، ثم نشأ عنه إله بعد مقتله. بعبارة أخرى، فالحس الديني ناتج ضرورة، حسب التصور الفرويدي، عن عقدة قتل الأب (عقدة أوديب المعروفة التي جعل منها أساسا للتحليل النفسي الذي هو له بمثابة الأب الروحي وهو قد زاوله خلال كل حياته المهنية). ومكمن شرود فرويد ونموذجه هو بالذات في قلبه للقيم التي يفترض أن تحكم علاقات الناس بينهم، إذ جعل قتل الأب في حال الجماعة البدائية كما في حال المجتمع اللاحق، المجتمع الديني (لأنه يرى أن قوم موسى قتلوه فندموا على عملهم ورجعوا إلى دين التوحيد، دين هو مزيج من التوحيد المنسوب إلى أخناتون عند المصريين وشخص آخر من مدين) – قلت: جعل قتل الأب بمثابة الشرط الضروري من أجل التشريع الذي لابد لكل اجتماع إنساني منه إن هو أراد ضبط المعاملات بين أفراده.
إن فكرة قتل الأب التي باتت تلوكها الألسن حتى أنها صارت عَلماً على كل تمرد على الثابت من الأخلاق والقيم والعادات، الخ.، يجب وضعها في سياق موت الإله كما عند نيتشه في هكذا تكلم زرادشت و العلم المرح. وسيذهب لاكان (أحد أكبر ورثة فرويد) إلى أبعد من هذا، وذلك بنفي حتى وجود اسم يدل على الذات الإلهية (في التراث اليهودي الذي اشتغل عليه مطولا، تأويلا واستثمارا)، مستشهدا بنص من سفر الخروج يروي مشهد التكليم المعروف ويظهر منه أن موسى يسأل عن اسم مَن يكلمه ليعرف ما يُحَدث به قومَه، فجاءه الجواب: قل لهم: أنا هو من هو. طبعا يتصدى طه لهذا الادعاء الغريب بما عهد منه من حجج نقلية وعقلية. إن الأخلاق التي دعا إليها لاكان هي أخلاق الشهوة. وهو يذهب إلى أن التخلي عن الشهوة يورث الشعور بالذنب، ليس هذا وحسب بل هو خيانة للذات، ومن هنا فالمطلوب من الإنسان التصرف وفق أخلاق الشهوة هذه التي تسكنه. سيرا على خطى مؤسس التحليل النفسي، يقول وارثه بفكرة اشتهاء الطفل لأمه، إلا أن سلطة الأب (الممثل الأعلى للقانون) تمنعه من الاستمتاع بها، لكن يبقى له حق اشتهائها، والاشتهاء رغبة لا انفكاك لها عن الفقد، أو قل إن الشهوة قائمة ما كان الفقد. وبينٌ أنه هنا يقلب المقررَ من القيم التي بموجبها يكون الانصياع للشهوات بالأحرى مفسدةً للأخلاق. يضرب لاكان لأخلاق الشهوة مثالا أسطوريا (أي رمزيا ومن هنا قوته وأثره في النفوس) هو مثال أنتيغون عند سوفوكل. معروف أن أنتيغون هي ابنة أوديب (الذي أعطى للتحليل النفسي العقدة المرتبطة باسمه) أي أنها (وأختها إسمين وأخويها إتيوكل وبولينيس) نتيجة لشهوة أبيها وأمها (جوكاست أم أبيها في الوقت ذاته) التي هي عبارة عن خطيئة أصلية؛ وهي تتقبل قدرها وتذهب في مسايرته إلى حد مخالفة القانون القائم الذي يجسده خالها كريون، والقاضي بعدم دفن أحد أخويها المتهم بخيانة الوطن، إذ ستعمل حسب رغبتها العارمة في إتمام طقوس الدفن وتتحمل تبعات رغبتها. سيُحكم عليها في النهاية بأن توضع في قبو مظلم، لكنها ستضع حدا لحياتها، وبهذا تكتب اسمها في سجلات الذاكرة الجماعية. الدليل الساطع هو أنها ما تزال حاضرة بقوة في التراث الانساني، أسطورتها مستعادة في شكل صيغ مسرحية جديدة أو في صورة اقتباسات فنية أو حتى موضوع فلسفي. باختصار، إنها ما فتئت تلهم الكتاب والفلاسفة والفنانين والمحللين النفسانيين، وبالتالي فتضحيتها الموجهة برغبتها لم تذهب هباء.
أشار طه إلى اشتغاله على كتاب جديد يتوخى التأسيس لأخلاق هي على طرف نقيض من أخلاق الشرود، التي رسم ملامحها في النص الحالي وأخضعها لمبضع النقد؛ ويُرتقب أن تكون هذه الأخلاق أخلاق شهود أو قل ورود (ورود الينبوع المطلق)، غايتها إيجاد إنسان شاهد (أو قل وارد)، من خصائصه أنه كامل (لا فائق)، عابد (لا سيد)، ودود (لا مارد)، يعمل على إحياء ذكرى أبيه (الأول) وتخليدها (بدل قتله)، يسير على نهجه في ممارسة التوبة من الخطيئة والتدرج في ممارستها إلى حين استرجاع مقامه الأصلي، مقام القرب (بدل الإصرار على الإثم الذي يسبب البعد والطرد).
يشتمل الكتاب على ثلاثة أبواب، اجتهدنا حسب الطاقة في إجمال ما جاء فيها ولو أن النص متموج، من الثراء بحيث يحار المرء فيما يجب أن يأخذ منه أو يدع. ما نود قوله والتأكيد عليه هو أن الفصلين الثاني والثالث من الباب الأول هما بالأهمية بمكان، إذ يقدمان للقارئ العربي، بطريقة ذكية ومركزة، الأسس التي انبنى عليها التحليل النفسي في لحظته الأولى مع فرويد ولحظته المستأنفة مع لاكان، مع اجتهاد واضح (ومطلوب) في وضع مقابلات عربية لأمهات المفاهيم في هذا الحقل من العلوم الانسانية.