صورة المثقف كحَمّال عبد الفتاح كيليطو متحدثا عن إدوارد سعيد
سأتطرق في هذا النص لبعض مظاهر المثنى عند إدوارد سعيد، وخصوصاً على الصعيد اللساني. وكما لا يخفى، فعنوان النص هنا مستوحى من رواية جيمس جويس المشهورة، صورة الفنان كشاب. وما حداني إلى اقتباسه أنّ إدوارد سعيد كثيراً ما يستشهد بالكاتب الأيرلندي الذي تجمعه وإياه وشائج متعددة، من بينها روح المعارضة والمشاكسة التي يتصفان بها، وأيضاً لكونهما اختارا حياة المنفى والاغتراب. ارتسمتْ صورةُ المثقف كحمّال في ذهني وأنا أقرأ سعيد، وعلى الأخص مذكراته، خارج المكان. فإذا بنماذج حمّالين ترد على بالي، حمالين أسطوريين، وفي مقدمتهم العملاق أطلس (اسم يعني الحمّال باليونانية) الذي حُكِم عليه بحمل الأرض، ومن بينهم وبمعنى ما سيزيف وصخرته العنيدة، وكذلك إيني، بطل «الإنيادة» لفيرجيل، الذي فرّ من طروادة وهي تحترق حاملاً أباه على ظهره. بالإضافة إلى هؤلاء، ثمة حمّالون يبدون لأول وهلة أقلّ أسطورية وأقل تألقاً، وأخص بالذكر السندباد الحمّال، صاحب السندباد البحري، ويُسمى الحمّال؛ لأن شغله حمل «أسباب الناس»، أي أثقال الناس، على رأسه، كما نقرأ في الحكاية الذائعة الصيت التي تتحدث في العمق عن مثنى، عن سندبادين اثنين، البري والبحري (يحكي السندباد البحري أسفاره السبعة للبري، ثم يكافَأ على إصغائه بسخاء، لأنه صار يحمل قصته).
مقارنة مع هؤلاء، ماذا يحمل إدوارد سعيد؟ تحت أي ثقل يرزَح؟
حمّال حقائب سفر
لنبدأ بما قد يبدو تافهاً أو ثانوياً. لنبدأ بمشهد زيارته وهو تلميذ في مدرسة ماونت هيرمون في الولايات المتحدة، لأسرة عمّه في نيويورك، من أجل قضاء عطلة عيد الميلاد. وصل عند مضيفيه حاملاً حقائبه الضخمة، وإذا بالبيت يكتظ بها فلا يتحركون فيه إلا بصعوبة كبيرة. يعلق سعيد على ذلك: «كان بإمكاني تركُها في المدرسة، ولكني كنت أرفض رفضاً قاطعاً لأسباب عُصابية، أن أذهب إلى أي مكان دون أن أصطحب معي جميع ممتلكاتي». ويلحّ على عادته تلك في موضع آخر: «عندما أسافر أصطحِب معي دائماً كمية لا حاجة لي بها من الأمتعة، وحتى لو كانت رحلتي لا تتعدى وسط المدينة». حقائب ضخمة ثقيلة يصطحبها معه خلال تنقلاته وتجوالاته، فإذا به والحالة هذه يمشي منحنياً مقوّس الظهر مُعوجَّه.
من قرأ مذكرات سعيد، يعلم أن أحد هواجسه المُلِحّة (أو عِللِه كما يسميها)، مرتبط بخشيته أن يصير أحدب؛ فهو يخصص عدة صفحات من «خارج المكان» لوصف جهوده المضنية «لتقويم اعوجاج ظهر [ه]»، على حد قوله. وارتباطاً مع هذا الهاجس تبرُز صورة الأب بقوة: «سنوات بذلها أبي من المحاولات لجعلي أقف مستقيمَ القامة، «الكتفان إلى الخلْف»، كان يقول». يقولها بالإنكليزية، فتضيف أمه بالعربية: «لا تسْترْخ». ومراعاة لرهافة شعوره ودرءاً للحرج، يكتفي الأب أمام الناس بكلمة واحدة: «ظهر». وحين يستبد الحنين بالتلميذ إلى أهله وهو في الولايات المتحدة، يسحب حقيبة ضخمة من تحت السرير (لا يمكن أن تكون حقائب سعيد إلا ضخمة)، ويقلّب في ألبومات الصور والرسائل فيجهش بالبكاء، لكنه سرعان ما يتذكر قول والده: «استقم! شُدّ ظهرَك إلى خلف، ظهرك، ظهرك». بغض النظر عن الجانب الفيزيولوجي، يوحي كلام الأب بمعانٍ أخرى لتقويم الظهر: الاستواء، الاستقامة المعنوية، المشي مرفوع الجبين، التغلب على نزعة الانكماش واللامبالاة، الجرأة على المجابهة والصمود، صفات أساسية للمثقف الحق كما سطّرها سعيد في المثقف والسلطة.
الاستواء، بهذا المعنى، من الصفات التي يجب على المثقف أن يراعيها. وفقاً للقاموس «المنجد»، يوصف المرء بالسوي عندما يكون «مستوى الخَلْق لا عيب فيه ولا داء». لكن هل المثقف شخص سوي؟ أينبغي أن يتصرف استناداً إلى صورة نمطية يلصقها الناس به أو يطالبونه بالتشبه بها وإعادة رسمها؟ أهذه سِمَته؟ لم يكن سعيد شخصاً سوياً من هذا النمط، ولقد تبين له اختلافه منذ صغره: «كان ينقصني شيء ما. شيء اكتشفت في ما بعد أنه يسمى «الموقف السّوي»». خلال دراسته في الولايات المتحدة، ظهر له هذا النقص مقارنة مع طلاب آخرين يصفهم بدقة بليغة ساخرة: «لا زوايا ناتئة في شخصياتهم، ولا يسيئون إلى أحد، والجميع يحبهم. وهم يتحلّون بقدرة مدهشة على تحاشي إطلاق الكلام الخطإ أو المسيء. باختصار، كان انطباعي عنهم أنهم متكيِّفون كلّياً مع بيئتهم، وذلك ما يجعلهم الخيار الطبيعي لتلقّي المهمات الفخرية والجوائز التقديرية». كان ذلك يحُزّ في نفسه أحياناً، لكنه وطّن نفسه على تحمل اختلافه، مقابلاً مفهوم «الموقف السوي» بمفهوم «خارج المكان»: «والآن لم يعد يهمّني أن أكون سويّاً، وفي مكاني». ويختم مذكراته بكلمات موحية يُمكن اعتبارُها خلاصة لموقفه ونظرته لنفسه: «تعلمتُ […] أن أُوثِرَ ألا أكون سوياً تماماً وأن أظل في غير مكاني».
العودة وعدم العودة
ما هي الأسباب الغامضة، العُصابية كما يسميها، التي تجعله يتنقل حاملاً لحقائبه، لـ«أسبابه»؟ يجيب: «في تحليلي لذلك، استنتجت أني مدفوع بخوف سرّي لا فكاك منه، هو خوفي من عدم العودة». الخوف من اللاعودة، والرغبة في أن يظل ينعم إن تعذر الرجوع بأغراضه كلها فتكون في متناوله في مأواه الجديد، وألا يفقدها إضافة إلى فقدانه للمكان، لما يعتبره مكانه.
تُعَدّ مسألة العودة، بكل دلالاتها، وارتباطها بالنفي على الخصوص، لازمة عند سعيد. لنلتفت، بادئ ذي بدء، إلى ما قالته أمه لأبيه، بينما هو في طريقه لأول مرة إلى أميركا: «أنت تعلم أنه لن يعود». أخطأت طبعاً في التقدير، لأنه «سيعود»، بيد أنه من وجهة نظر أخرى «لن يعود». العودة مستحيلة، إنها في الواقع لا عودة. فالمكان الذي كنت تحسبه مكانك يرفضك وينبذك حين تعود إليه، ما يثير لديك شعوراً بغرابة مقلقة (Unheimlichkeit). وبناءً على هذا، صدقت نَبوءة الأم. يعود سعيد إلى بيته القديم في القاهرة، فلا يتعرف إليه الفراش. يزور مع أطفاله، بدافع من حنين جارف، المدرسة التي تعلم فيها، فلا ترحب به المديرة الجديدة، بل ترفض مصافحة يده وتطلب منه مكفهرة أن ينسحب فوراً. عاد أوديسوس إلى جزيرة إيثاكا بعد عشرين سنة من الغياب، فلم يتعرف إليها، ولم يتعرف إليه أحد فيها، لا ابنه، ولا أبوه، ولا زوجته ولا خدامه. وحده كلبه العجوز تعرف إليه، ثم مات لحينه.
«خوفي من عدم العودة»، يقول سعيد… خوف تفاقم لديه أثناء فترة مرضه («الذي [عَرَف] منذ البداية أنْ لا شفاء منه»). كان يعلم أنه مقبل على سفر من دون أمل في العودة. وبعد شهرين من بدئه العلاج، بدأ العمل على «خارج المكان»، كتاب عنوانه الفرعي «مذكّرات». الخوف من اللاعودة حداه إلى الرجوع إلى نشأته، إلى تكوينه وبداية حياته. كان المصريون القدماء يحرصون على أن يكونوا مرفوقين بعد موتهم بحوائجهم حتى لا يعوزهم شيء في العالم الآخر. يحملون معهم أغراضهم، بيد أن البعض يصرون على الرحيل إلى العالم الآخر مع كتبهم. ذلك ما حصل لابن رشد عندما نُقل جثمانه محمولاً على ظهر دابّة من مراكش إلى قرطبة، كما شاهده ورواه ابن عربي في الفتوحات المكية:
«ولما جُعِل التابوتُ الذي فيه جسَدُه [ابن رشد] جُعِلت تواليفه تُعادِله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي […] ابن جُبير، وصاحبي أبو الحكم […]، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه أعماله!».
عاد ابن رشد إلى مسقط رأسه، قرطبة، لكن رحلته تبدو وكأنها سفر إلى العالم الآخر. رحل ابن رشد مُحمَّلاً بكتبه؛ سعيد بدوره أصرّ على اصطحاب كتبه، وربما كتاب بعينه، ولعلة ما سمّاه «خارج المكان»، يشتمل على ذكرياته ويقيه من النسيان، كتاب بديل عنه. إنها رغبة في البقاء على قيد الحياة، في الاستمرار في الحياة، في حياة بعد الحياة، في عودة إلى الحياة. «رغبة تافهة في البقاء (le dur désir de durer)»، كما يقول الشاعر إلويار.
جرَّب سعيد (بمعنى تدرّب على، كما يفعل الممثلون) الرحلة إلى العالم الآخر حين انتقل إلى الولايات المتحدة من أجل الدراسة. وعن هجرته إلى العالم الجديد وما بذله من جهد للتكيف مع أجوائه، يقول: «لست أملك إلا فكرة غامضة جداً عمّا كانت ستؤول إليه حياتي لو أني لم أجئ إلى أميركا. ولكن الذي أعرفه أني بدأت فيها بداية جديدة، متناسياً، إلى حد ما، ما تعلمته من قبل، لأعيد تعلم الأشياء ابتداءً من الصفر».
بداية جديدة في العالم الجديد. ضرب صفحاً عن الماضي، واستأنف الحياة انطلاقاً من الصفر، وتحول، أو هكذا اعتقد، إلى شخص آخر لا يكاد يمتّ بصلة إلى ما كان عليه من قبل، في هندامه ولباسه وتصرفاته. كان ملزماً بقفل درج ليفتح آخر. في منفاه الأميركي كان عليه تصحيح رؤيته وتقويم نظرته للأشياء وكأنه يبصرها لأول مرة. يقتضي التكيف مع الحياة الجديدة نسيان الحياة القديمة، أو على الأصح تناسيها. إن ما يتعين هو التظاهر بالنسيان؛ ذلك أن النسيان يستحيل، كما تستحيل العودة، بل لعل التناسي ذاكرة مضاعفة، ذاكرة زائدة ومفرطة.
ما يفتقده المرء كثيراً في غربته، من بين أشياء أخرى، هو اللغة. يفتقد إدوارد سعيد اللغة العربية. لا أحد حوله يتكلمها: «كان يساورني شعور دائم بأن ما أفتقده في صحبة مجايلي الأميركيين هو استخدامُ لغات أخرى، والعربية خصوصاً، تلك اللغة التي أعيش وأفكر وأحس فيها، جنباً إلى جنب مع الإنكليزية».
بعيداً عن الشرق، يساوره الحنين إلى الأم، ولغة الأم، إلى العربية. لا أحد حوله في منفاه يتحدث بها، فهي «الغائبة عن كل باقة زهر»، إذا جاز أن نستعير في هذا المضمار عبارة للشاعر مالارمي جاءت في سياق آخر:
l’absente de tout bouquet. لا أحد يلاحظ أو يعاين عربية سعيد، عربيته ثاوية في ذهنه، يخفيها ويحجبها. وكأني به، وهو يتحسَّر على ذلك، يتلذذ في الوقت نفسه بوضعه. كأني به يحقق حلماً دفيناً، رغبة مكتومة في أن يبصر الناس من حوله دون أن يبصروه: «أصعب الصعاب عندي أن ينظر إليّ الناسُ وأن أقابِل نظراتهم بمثلها». ولهذا يشعر براحة كبيرة في قاعات السينما حيث يكون متخفياً محتجباً: «استمتاعي المترف بحريتي المُكَرَّسَة في أن أرى الناس من دون أن يراني أحد». فكأني به يشتهي أن تكون له طاقية إخفاء، يضعها على رأسه متى يشاء. بين مجايليه الأميركيين الذين لا يميزون عربيته، كان يحظى نوعاً ما بقبعة سحرية تجعله يتوارى جزئياً، تخفي نصف شخصيته.
هل البداية من الصفر ممكنة؟ في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وهو كتاب يصف مشاهد من الآخرة، الحَشْر، الجنة، الجحيم، نقرأ حواراً طريفاً بين ابن القارح، الشخصية الرئيسة، وآدم، نستنتج منه أن آدم كان يتكلم العربية في الجنة، وأنه نسيها لما طُرِد، فأخذ يتكلم السّريانية. العربية في الجنة والسريانية خارج الجنة. إذاً، التعدّد اللغوي كان سابقاً لِبُرج بابِل… ومع ذلك نتساءل: هل كان آدم مزدوجَ اللغة؟ ليس بالضبط، لأنه نسي العربية عندما شرع في تكلم السريانية، وينتج من ذلك أنه أحاديُ اللغة، حسب المكان الذي يوجد فيه: إما العربية وإما السريانية. لم يكن لديه تشابك بين اللغتين، معرفة مزدوجة، وبالتالي لم يجرِّب ما يحدث عندما يلتقي لسانان، وما يواكب ذلك من شدّ وجذب، من تنازع وعداوة بين اللسانين. بعيداً عن الجنة نسي آدم العربية فنسي بالتالي كل ما يتعلق بحياته قبل النفي، لم يبق في ذاكرته أثر منها، فكأنه لم يعشها. هكذا غادر الجنة خاويَ الوفاض، لا يحمل شيئاً.
عربي بامتياز
أما بالنسبة إلى سعيد، فإن النفي لم يتزامن مع نسيان ما عاشه من قبل. في الولايات المتحدة، سعيد لم يكن فحسب مصحوباً بحقائبه لا يفارقها. سرعان ما تبين له أنه مثقل باسمه، بلونه، بلغته، تنهال عليه ذكريات ماضيه في الغربة، باعثة لديه شعوراً باختلافه وتميّزه عن محيطه الجديد: «كنت أشعر بأني مُثْقل حَدّ التّخمة بالذكريات». صار كيانه في الغرب أكثر عروبة مما كان عليه من قبل في البلاد العربية. صار عربياً بامتياز. يقول عن نفسه بضمير الغائب إنه «عربي أدت ثقافتُه الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصولِه العربية». تغيير المكان لم يؤد به إلى فقدان العربية أو التخلص منها. لم يكن قطّ أحادي اللغة، مثل آدم، لا قبل المنفى ولا أثناءه.
تأكد هذا خلال حادث جرى له، حادث بسيط وتافه ظاهرياً، لكنه في الواقع ذو دلالات عميقة، وربما رهيبة. في مدرسته الأميركية حاول التقرب من مستر إدموند ألكزاندر، مدرب التنِس وأستاذ اللغة الإنكليزية. لنلاحظ أن لهذا الشخص وظيفتين، وسنرى الاتساق الموجود بينهما. ولأن مستر ألكزاندر من أصل عربي (قضى مدة في القاهرة)، فقد خاطبه سعيد بالعربية، فكان جوابه، بالإنكليزية: «لا، يا أخي، لا عربية هنا. لقد تركت كل ذلك خلفي حين أتيت إلى أميركا». اختار مستر ألكزاندر الانسلاخ عن ذاته القديمة، عن ماضيه، اعتقاداً منه ولا شك أن هذا لا يتحقق إلا بنسيان العربية. إذاً، في ما يخص مستر ألكزاندر، نحن أمام ظاهرة يمكن تلخيصها هكذا: لن أتكلم لغتي، سَأُعْرِضُ عن الحديث بها نهائياً لكوني أخجل منها، أخجل من العربية ومن العرب. وهنا ينبغي أن ننتبه إلى أن مستر ألكزاندر قاطع سعيد في نصف عبارته رافعاً يده اليمنى، قاطعه بالكلام وبالحركة، حركة دفاعية، كمن يصُدّ هجوماً أو كمن ينطق بالقَسم: أقسم إنني لن أتكلم بالعربية ولن أدعك تتكلم بها. والنتيجة المرتقبة أنه لم يكتف بتحاشي سعيد والنفور منه خلال هذا المشهد، بل ناصبه العداء في ما بعد.
روى سعيد هذا الحادث في كتابه «تأملات في المنفى»، ولا شك في أنه أثر كثيراً فيه وشغل باله أيّما شغل، فقد وصفه أيضاً في «خارج المكان» بشيء من التفصيل. نقرأ في صيغة «خارج المكان» للحدث أنه وجّه كلامه بداية بالإنكليزية إلى ألكزاندر الذي ردّ عليه بفظاظة ولم يبال به، فقام سعيد حينئذ بتغيير لغة خطابه للتقرب منه والتودد إليه: «انتقلتُ إلى العربية ظناً مني أن لغتَنا الأم قد تفتح سبيلاً أرْحب للتواصل بيننا. فإذا النتيجة عكسية. فقد قاطعني في منتصف عبارتي رافعاً يده اليمين: «لا، يا أخي […] لا نتكلم اللغة العربية هنا. لقد خلَّفت كل هذا ورائي. نحن هنا أميركيون […] يتوجَّب علينا أن نتحدث وأن نتصرف مثلَ الأميركيين».
ارتكب ألكزاندر في كلامه «خطأين» لغويين اثنين، يقوم سعيد بتصحيحهما بينه وبين نفسه، وبينه وبين القارئ طبعاً، معلقاً عليهما بشيء غير قليل من الخبث. الخطأ الثاني هو قوله: «نحن هنا أميركيون». يُسِرّ سعيد إلى نفسه وإلى القارئ: «هذا تعبير عربي […]، بدلاً من أن يقول «إننا في أميركا، الآن Here we are Americans»». وهنا يتعين علينا أن نتساءل: هل كلمة «نحن» تُحيل في ذهن مستر ألكزاندر إلى المثنى أم إلى الجمع؟ هل كان يقصد بها: أنا وأنت – نحن أميركيان – أم كان يقصد بها سائر العرب المقيمين في أميركا أو الحاصلين على جنسيتها؟ أغلب الظن أنه كان يقصد المثنى؛ لأنه إن قصد الجمع، فإنه سيكون قد عقَد أواصِر قربى بالعرب، بينما هو يكرههم ولا يود أن يشم رائحتهم.
هذا في ما يتعلق بـ«الخطأ» الثاني الذي ارتكبه ألكزاندر. أما «الخطأ» الأول، فهو قوله: «لا، يا أخي». يهمس سعيد في أذن القارئ: «فكرت بيني وبين نفسي: هذه عبارة عربية صرفة، مع أنه نطق بها بالإنكليزية».
وبالفعل، «يا أخي» تعبير عربي يفهمه حرفياً لا مجازياً من لم يعاشر العرب، بينما يدل فقط على المودة والألفة. وكان أنطوان غالان، المترجم الأول لـ (ألف ليلة وليلة)، قد صادفه عندما نقل إلى الفرنسية عبارة قالها السندباد البحري للسندباد الحمال بعد أن قدم كلاهما نفسه للآخر، قال له: «أنت صِرتَ أخي». أحَسّ أنطوان غالان بالحاجة إلى إضافة تفسير، تجنّباً لسوء الفهم، فكتب: «وفقاً لعادة العرب عندما يتكلمون بأُلفة وبلا تكلف».
«لا، يا أخي»، عبارة يتجاور فيها النفي والأخوة. بل هي، على لسان مستر ألكزاندر، نفي للأخوة: لست أخي، لن تكون أخي.
فلتتا اللسان هاتان – نحن أميركيون، لا يا أخي – تشيان بمستر ألكزاندر وتكشفان للعيان هويته وانتماءه. هكذا تنتقم العربية ممن يجحدها وتفضحه. تَخيّلَ أنه أشاح بوجهه عما خلَّف وراءه، لكن ماضيَه يلاحقه ويلازمه. إنه غارق حتى أذنيه في العروبة، يتحدث رغم أنفه بالعربية في الوقت الذي ينبذها ويتنكر لها ولا يودّ التلفظ إلا بالإنكليزية. كلامه والحالة هذه رِقّ مَمْسوح، طِرْس شفاف (palimpsest)، يُظهر العربية حتماً في ثنايا الإنكليزية. وبالفعل، فمدرّب التنِس، وهو يتكلم بالإنكليزية، يتكلم في الوقت ذاته بالعربية. يترتب عن هذا أنه محكوم عليه أن يكون مترجماً. إنكليزيته انعكاس، نسخة من أصل عربي؛ أن يتكلم معناه أن يُترجِم، أو لنقل إن الترجمة هي لغته. ولا عجب أن يكون شُغلُه، علاوة على أستاذ الإنكليزية، مدرب تنِس، لعبة المثنى، لعبة تنطلق الكرة فيها من هنا إلى هناك، تنطلق لتعود، بين لاعبين اثنين. التنس كعملية ترجمة، أو الترجمة كمباراة تنِس. في الواقع، ألكزاندر مترجم وفيّ أمين، وهنا تكمن مشكلته، في أمانته ووفائه. الترجمة ليست هي الخائنة كما يقال عادة، بل اللغة الأصلية. إن عبارة «خارج المكان» تعريف جيد للترجمة: ينتقِل النص، يُنفَى حين يُترجَم خارج مكانه ويقيم في مكان آخر. لكن الأمر يختلف هنا في ما يتعلق بـ«لا، يا أخي». الترجمة (No, brother) لا تنقل النص بل تعيده إلى مكانه، أو لنقل إنه ظاهرياً في غير مكانه، ولكنه في الحقيقة لم يغادره.
سخرية الموقف أن مدربَ التنس لم ينتبه للهوة التي مشى على حافتها، يُدرِّس اللغة الإنكليزية ويخطئ في التعبير بها، لا لقصور في معرفته، بل في توافق مع لاوعيه. والجدير بالذكر أن الترجمة، خلال هذا اللقاء، تكون من الجانبين، لكن بطريقة معكوسة. يترجِم ألكزاندر لا شعورياً من العربية إلى الإنكليزية، ويترجِم سعيد شعورياً من الإنكليزية إلى العربية، عبر تصحيح أخطاء مخاطَبِه.
ما هي لغته الاصلية؟
هنا لا بد أن نتوقف لحظة لنتساءل: هل حالة مستر ألكزاندر حالة استثنائية شاذة؟ ألا تبدو، عند تدقيق النظر في «خارج المكان»، سلوكاً شائعاً في فترة الأربعينات والخمسينات وفي الوسط الذي عاش فيه سعيد؟ هل يختلف سعيد جوهرياً عن ألكزاندر؟ يستهل كتابه بقوله: «الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني». ولكن أين هو مكانه؟ إنه دوماً، كما يوحي بذلك عنوان كتاب لتسفيطان طوضوروف، متغرب، حائر، مضطرب (dépaysé).
ويقول أيضاً: «لقد اختَبرتُ دوماً ذلك الشعور بالغُربة المزدوِجة». كما يقول: «امتلكني […] الشعور المقلِق بتعدد الهويات ومعظمها مُتضارب طوال حياتي».
ما هي يا ترى لغته الأصلية؟ يقول في «خارج المكان»: «لم أعرف أبدا أية لغة لهجت بها أولاً: أهي العربية أم الإنكليزية، ولا أياً منهما هي يقيناً لغتي الأولى». يعالج الموضوع نفسه في «تأملات حول المنفى»، مع فارق دقيق لا يمكن إغفاله، حين يقول: «العربية، لغتي الأصلية، والإنكليزية، لغتي المدرسية، كانتا مختلطتين على نحو يتعذر فصمه: فلم أعرف أبداً أيَّهما كانت لغتي الأولى». في الجملة ذاتها يعلن أن العربية لغته الأصلية، ثم لا يلبث أن يضيف أنه لا يعرف ما هي لغته الأولى، أهي الإنكليزية أم العربية… على أي حال، كانت الازدواجية مصدرَ قلق عنده أشار إليه عدة مرات: «لم أكن أشعر أنني مرتاح تماماً في أي منهما، على الرغم من أنني أحلم بكليهما». والنتيجة المحتومة أنه ما إن ينطق بإحدى اللغتين إلا ويبدو شبَحُ الأخرى: «في كل مرة أنطق بها بجملة إنكليزية، أجد نفسي أرددها بالعربية، والعكس بالعكس». فسواء أتكلم بالعربية أم بالإنكليزية، يظل دورُه دورَ مترجم، تماماً كما هو حال ألكزاندر.
ومما يقربه أكثر من مدرب التنس أنه نشأ في وسط متّسم باحتقار اللغة العربية، ينبذها أو يعتبرها في أحسن الأحوال من الأقارب الفقراء. في القاهرة، وهو تلميذ، «كان الانتماء العربي وتَكلّمُ اللغة العربية يُعَدّان بمثابة جُنحة يعاقِب عليها القانون في فكتوريا كولدج، فلا عجب أن لا نتلقّى أبداً التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية بلادنا. […] نواجه قوة كولونيالية […] ونحن مُجبَرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هي الثقافة السائدة في مصر». هنا سعيد يركز على العداوة بين العربية والإنكليزية: «الفارق بين الإنكليزية والعربية يتخذ شكل توتر حاد غير محسوم بين عالمين مختلفين كلياً بل متعاديين». لكن الصراع غير متكافئ؛ لأن الهيمنة للإنكليزية، ويترتب عن هذا تذبذب في الهوية: «شعوري بامتلاك هوية مُضطرِبة، أنا الأميركي الذي يُبطن هوية عربية أخرى لا أستمد منها أية قوة بل تورِثُني الخجل والانزعاج». يُصر على التمسك بالهوية العربية، «على الرغم – كما يقول – من المحاولات الحَثيثة التي بُذِلَت لإقناعي بالتخلي عنها خلال فترة تربيتي وبواسطة أهلي، وإنْ يكُن بدرجة أقل».
حتى الأهل… فحين استحكمت العداوة بينه وبين ألكزاندر، تذكّر نصيحة سبق أن قدمها له أبوه: «أكد سلوك ألكزاندر حصافة تحذير أبي القائل بضرورة تحاشي العرب في الولايات المتحدة: «لن يُقدِّموا لك أي خِدمة أبداً، بل سوف يعملون دوماً على شدِّك إلى أسفل»». نبرة أبيه وهو يقول هذا كانت توحي، يكتب سعيد، «بأنْ لا استثناء أو تلوين لتلك القاعدة». فكيف يُرتَقَب، والحالة هذه، أن يتصرف ألكزاندر معه بطريقة محمودة؟ تصرف ألكزاندر كان من زاوية ما تطبيقاً موضوعياً لنصيحة أب سعيد. كلاهما في نهاية الأمر يدعو إلى، أو يعمل على تحاشي العرب في الولايات المتحدة.
اللغة بما هي ترجمة
وقد تَرتَّب عن هيْمنة «القوة الكولونيالية» أن قراءات سعيد أثناء دراسته، سواء في مصر أو في الولايات المتحدة، لا تتعدى الأدب المكتوب بالإنكليزية أو المترجَم إليها. ما أكثر المؤلفات الغربية التي رافقته في مختلف أطوار تكوينه، والتي يستعرض عناوينها بنهم في خارج المكان، لكن لا إشارة فيه إلى كتاب عربي أو كاتب عربي، ولا إحالة إلى الأدب العربي، الذي لم يدرسه ولم يشتغل عليه. يتكلم بلغتين، لكنه يقرأ بلغة واحدة فقط، الإنكليزية، التي ستصبح لا محالة لغة الكتابة.
على الرغم من عدم إلمامه، خلال سنوات دراسته، بالأدب العربي، بالثقافة العربية المكتوبة، فإن اختيارَه لِجوزف كونراد كموضوع لبحث أكاديمي (نشره سنة ١٩٦٦ تحت عنوان «جوزف كونراد ووهم السيرة الذاتيّة») دليل على انشغاله بمسألة الهوية التي تشكل الأساس الذي تستند إليه روايات هذا الكاتب. ولا عجب أن يتحدث سعيد عنه في مقدمة الطبعة العربية لـ«خارج المكان» وفي كتابات أخرى بإسهاب، فهو مَثَلُه الأعلى، نموذج يحتذيه أو يسعى إلى احتذائه، على الرغم من النقد الذي يوجهه إليه أحياناً. سعيد، العربي الأصل، كتب بالإنكليزية، كما فعل كونراد البولوني الأصل. وعنه يقول: «عاش تجاربه في اللغة البولونية، لكنه وجد نفسه مسوقاً إلى الكتابة عن تلك التجارب في لغة ليست هي لغته». يوحي سعيد بأنه في الوضعية نفسها، حين يضيف: «الكتابة عندي فعل استذكار، وهي، إلى ذلك، فعل نسيان، أو هي عملية استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة». استبدال اللغة القديمة بلغة جديدة… لكن ما هي، مرة أخرى، لغة سعيد القديمة، لغته الأولى؟ أهي العربية؟ لا يمكن الجزم وهو نفسه لا يُقِر يقيناً بذلك. مما لا شك فيه أن لكونراد لغة أصلية، البولونية، لم يتعلم الإنكليزية إلا بعد أن تقدم في السن وبعد أن تعلم الفرنسية، فهي لغته الثالثة. يختلف الأمر بالنسبة إلى سعيد: لم يستبدل، كما فعل كونراد، لغة بلغة، لم يستبدل العربية بالإنكليزية، فكلا اللغتين أصليتان عنده. ليست لديه لغة قديمة أعقبتها لغة جديدة وحلت محلها. ومع ذلك، إن كان ولا بد من حديث عن لغة جديدة ولغة قديمة، فالجديدة في ما يخصه هي العربية، أقصد المكتوبة، عربية الأدب والثقافة، عربية القراءة والكتابة، عربية الكتاب.
العربية هذه، المُهمَلَة في تكوينه، أحس بحاجة ملحة لتَعلُّمها، وبالتالي لإنجاز نقلة نوعية في مساره. عربية الكتاب هي السبيل لردم الهُوّة بين هويتين، بين عالمين: «كنت أشعر بوجود هُوّة من سوء التفاهم تفصل بين عالمي الاثنين، عالَمِ بيئتي الأصلية وعالمِ تربيتي، فإن مهمة تَجْسير تلك الهُوّة إنما تقع عليّ وحدي دون سواي. فلم يكن لي من خيار غير السعي إلى هويتي العربية وتَمَثُلها تمثّلاً». ويضيف: «اتخذت قراري، بعيد حرب ١٩٦٧، بأن أعود سياسياً إلى العالم العربي الذي كنت قد أغفلته خلال سنوات التعليم». ها هو يعود (لنتذكر نبوءة أمه الملتبسة)… ها هو يعود، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، إلى العالم العربي سياسياً، وأيضاً ثقافياً، بل حتى جغرافياً، وإن بصفة جزئية؛ إذ قضى عاماً كاملاً (1972) في بيروت، «في إجازة – يقول – رحت أتعرف فيها من جديد على التراث العربي الإسلامي من خلال دروس خصوصية يومية في فقه اللغة والأدب العربيين». من جديد… ها نحن مرة أخرى أمام مسألة العودة.
هكذا جاء إلى الأدب العربي بعد أن درس الأدب الغربي. إن كان هناك غموض في ما يتعلق بقضية اللغة وأيّهما الأولى، ففي ما يتعلق بالأدب، واضِح أن الأدب الغربي هو الأول، حبه الأول، أعْقَبه في منتصف عمره حب الثقافة العربية. حبان متوافقان ومختلفان في آن واحد. إنه في مكانين، وبينهما، أي إنه خارج المكان. ربما في هذا التعبير سِرُّ كتابته: «بدأت أفكر وأكتب طِباقِياً، مستخدماً نِصفَيْ تجربتي المُتباينيَن، كعربي وكأميركي، على نحو يعمل فيه واحدهما مع الآخر كما يعمل ضده». تجسير الهُوة: مَدّ جسر يجعل من اللغة ترجمة، ومن الهوية انتقالًا بين تراثين وثقافتين، ومن المثقف حمالاً يصل ضفة بأخرى.